القلوب مخازن.. والذكريات بضائع انتهت صلاحيتها نحتفظ بها على رفوف الذاكرة لأننا دفعنا بها ثمنا كبيرا..أما داخل جدران دار المسنين هذه، فالذكريات هي كل ما تملكه نسوة الدار..حتى أولئك اللاتي عبث الزمن بذاكرتهن.

ملكات دون عرش أو تاج، يعشن داخل الدار التي توفرها جمعية الاتحاد النسائي العربي في مدينة البيرة مختارات أو مكرهات ولكل منهن قصة وحكاية ترسم ملامح حياة مضت وأبت إلا أن تترك صداها في الأروقة لتتلقفها آذاننا وتوثقها بالكلمة والصورة.

هجرها أبناؤها وتركوها وحيدة

القوة ليست دائما فيما نقول أو نفعل..أحيانا تكون فيما نصمت عنه، وصمت أم نادر باحت بالكثير، فهذه العجوز لم تتوقع أن تكون قبضة الموت التي غيبت زوجها عن الحياة أحن عليها من سواعد أبنائها الذين سارعوا بأيداعها دار المسنات لتقدمها بالعمر..

موجة من الاهات اطلقتها ام نادر حين سألناها عن اولادها واذا ما كانوا يزورونها فقالت: "لدي ابنا وبنتا وهم في الخارج لا يأتون لزيارتي ولا استطيع الذهاب لهم " ثم احنت راسها المتعب واغرقت عيناها بالدموع وكأن لسان حالها يقول" شو الى رماك على المر غير الامر منه".

"عشر سنين على هالقعدة"

كانت تتنقل على كرسيها المتحرك بخفة وكأنها تحاول ألا تلفت انتباهنا..لكن الحزن الذي يقطر من عينيها شدنا إليها بقوة لم نحتج إليها على ما يبدو لدفعها إلى "الفضفضة" إلينا "الى عشر سنين على هل قعده" قالت العجوز التي خجلت من ذكر اسمها فاحترمنا خصوصيتها، فبعد طلاقها من زوجها الذي لم تنجب منه، ووفاة والدها، لم تحتمل أخواتها فكرة رعايتها لينتهي بها المطاف في دار المسنات وحيدة محرومة حتى من الزيارة.

أصغر المسنات وأكبر الهموم
سمر وعصمت في الخمسينات من عمرهن، وهن اصغر الموجودات في الدار يسردن قصتهن: "لدينا من الأخوة والاخوات ثلاثة وكنا نعيش في بيت اهلي مع والدتي ولكن بعد زواج اثنين من أخوتي وهجرتهم الى الخارج ووفاة امي واختي، جاء اخي بنا  إلى هذه الدار وهنا وجدنا الراحة التي لم نجدها في بيت العائلة " فأحيانا الغريب احن من القريب".

كان الأخ دائم الاتصال بأخواته عند قدومهن للمركز ولكن مع السنوات خفت تلك الاتصالات واقتصرت على المناسبات والاعياد التي باتوا ينتظرونها بفارغ الصبر فقط لسماع صوته!

قوائم الانتظار طويلة

تقول منتهى جرار، مديرة الدار التي تضم 30 مسنة، ان قوائم الانتظار لديها طويلة وعدد الطلبات التي تتلقاها الجمعية من عائلات ترغب في إيواء مسنيها بالدار في تزايد كبير ولكن هناك شروط يجب مراعاتها لكي تتم الموافقة عليه وأولها ان الدار لا تستقبل من يملك عائلاً من أسرته قادراً على رعايته.

ويبدو أن حضورنا فجر في ذاكرة السيدة جرار عشرات القصص والمشاهد التي لن تنساها كما تقول، ففي احد الايام، تروي مديرة الدار، "طرقت صبية في الثلاثينات من عمرها باب مكتبي تجر خلفها  والدتها المسنة، تريد وضعها  في المركز  بحجة أقبح من ذنبها، فالست مشغولة" كانت تروي القصة والغضب باد على ملامحها الجادة أصلا وأردفت "لم تلاقي الصبية منالها في هذا المركز ولكن مقابل مبلغ من المال قد تجد من يقلع هذه الشجرة من جذورها".

الذين يشترطون لوجودهم مقابلاً، أيا كان هذا المقابل، شرع لهم أبواب الخروج فهم لا يستحقون هدر الوقت في استجدائهم وفق مديرة الدار لكن ليس بالنسبة لنزيلات الدار اللاتي امتهن الانتظار وأتقن فن زخرفة الذكريات.