نكاد لا نرفع عيوننا عن شاشات التلفزة. فمصير الأمة، يتعلق بالمخاض العسير، في هذه اللحظة، التي تحاول الشعوب العربية فيها، أن تتعرف على الطريق الى صيرورتها المبشّرة بالخير، والى مآلاتها السعيدة!
إن أسوأ ما فعلته الحركات الإسلاموية، وأعطبت به الحراك الشعبي العربي، الذي بدأ كثورات ضد الاستبداد الفساد في تونس وليبيا ومصر وسوريا؛ أنها نقلت المشهد العام، من الحال الشعبي، الى الحال الشعوبي، وشتان بين الحاليْن. الأولى طيبة وعادلة ومستنيرة ومتسامحة وميّالة الى التقدم والى تحسين شروط الحياة وملئها بالسياسة وقيم المواطنة. أما الثانية، الشعوبية، فإنها عقدية متطرفة ذات غريزة تخوينية وتأثيمية دون بيّنة أو دليل، وهي وهذا الأخطر تقسم المجتمع الى شعوبيات، يناهض كل منها الآخر، دونما إحساس بالحقيقة الاجتماعية والفكرية، التي تؤكد على أن الجميع متدين ويعبد رب العالمين، أو على الأقل ليس كافراً!
الحراك الشعبي، يسعى بطبيعته، الى إدخال الفئات المهمشّة الى قلب التاريخ العام لمجتمعاتها، وإنهاء اغترابها في أوطانها. وعندما يُستخدم الدين، كسلاح سياسي، يكون القائمون على هذا الاستخدام، وهو أنموذج للعمل التاريخي السلبي قد اقترفوا خطيئة مروّعة، لكي يحققوا رغبتهم في الهيمنة والتمكين المديد. ومن دواعي الحزن، أن مثل هذه الخطيئة، لازمت التاريخ العربي والإسلامي، على مر قرون، مستغلين كون المُعطيات الإيمانية والنفسية في الوعي الجمعي لشعوبنا، قد تراكمت فوقها فوق بعض، وساعدت على إيقاع القوى الحزبية، تأثير حاسم في مسارات التاريخ الذي ظل مطرباً ومؤلماً.
في الظاهرة الشعبية، يخوض الناس مجتمعين، صراعاً من جنس السياسة، بهدف الاستحواذ على الموارد المادية للمجتمع، ونيل المواطن حصته منها، وترسيخ السلطة الضامنة لهذا الحق، وخلع المشروعية عليها، في إطار يتجاوز المشارب والطوائف والعصبيات والجهات والتراتبيات التقليدية. وهذه هي الثورة الاجتماعية التي تشطب ما كان قبلها، من واقع مُزرٍ، يريد المستبدون والفاسدون، من الجماهير، أن تقنع به. أما الظاهرة الشعبوية الكريهة، فإنها نتاج التفكك المريع، بمفاعيل المستبدين، لشبكات وأطر التضامن بين الناس، وتلاشي الشعور بالهوية الجماعية الوطنية، وهي كذلك نتاج بيوت الصفيح البائسة وتشتت الفقراء وتفشي البطالة والفاقة. فهذه هي التربة الخصبة لزراعة بذور العنف. وعندما يتفجر الحراك الشعبي، يلتحق به البائسون والمهمشون، لكن القائمين على التوجه الشعوبي يأخذون قسماً كبيراً من هؤلاء الى مواقعهم الأيديولوجية، ويلقنونهم مفاهيم وآراء قطعية في الآخرين، بل وفي الدين نفسه وفي التاريخ المعاصر، ويُرضعونهم فرضيات ذات مضامين ومصطلحات وألفاظ، من شأنها كلها، الحيلولة دون التوصل الى الوئام الوطني، في أطر اجتماعية واسعة، على قاعدة مطالب الجماهير الشعبية وحراكها!
وليت الأمر، في الحال الشعوبي، الذي تنتجه الظاهرة الإسلاموية؛ يقتصر على انتاج الخصومة مع مكونات المجتمع الأخرى. فالظاهرة الدينية نفسها تتشظى وتتخاصم، بممارسات الأوساط الغالبة بينها، ويختص كل قسم لنفسه، بمعجم مفاهيم وأحكام لا يتزحزح عنها، تقطع بينها وبين الآخرين. وبدل أن يتوحد الصوت الشعبي المطلبي والحضاري والسياسي والوطني، يحل الهذيان الجماعي الذي يجلب الخراب والاحتراب، مثلما حدث في ليبيا، وكما بدأ يحدث الآن للأسف الشديد في سوريا.
إن المنظومات المعرفية (الابستمولوجيا) للقوى التي تستخدم الدين سلاحاً سياسياً؛ لم تعرف، على مر التاريخ، سوى طريق واحد، وهو انتاج الخصومة تلو الأخرى والتردي فيها، دون الرجوع الى المنشأ الأول للدين بروعته وإنسانيته وتسامحه. فبمفاعيل السياسة في لبوس الدين، ظل تاريخ الشعوب الإسلامية يألم كلما نشأت ظاهرة من هذا القبيل، استفادت من بيئات اجتماعية وسياسية خاطئة. لقد مر علينا الخوارج شديدو البأس، والمعتزلة والزيديون والإسماعيليون، وانشطر المسلمون الى سُنّة وشيعه. وما أن جاء الصفويون، مع العام الأول من القرن السادس عشر، حتى عمدوا من موقع السياسة، على تحويل إيران الى المذهب الشيعي، وفصلوا بين مقابر المسلمين الشيعة والمسلمين السُنة، في خطوة ابتعدت عن جوهر الوعي الديني، مثلما تأسس في عصر النبوّة والصحابة الأكرمين.
المستشرقون الأوروبيون، ظلوا يباهون بالدين المسيحي، على اعتبار أن هذه الديانة، سمحت بالفصل بين العامل الروحي والعامل الزمني، أو بين الدين والدنيا، وقد ساعد على ذلك، توافر شبكة واسعة في القارة الآروبية من المتاحف والمكتبات والجامعات الممتازة، ومراكز البحوث الناشطة التي ترصد كل الظواهر وتحللها وترفد بها الثقافة العامة.
تكفينا الذاكرة التاريخية، لأن نتعلم الدروس، وأن نصل الى قناعة باستحالة استحواذ حزب ديني على المجتمع، بل ينبغي أن تؤكد الدساتير، وقوانين نشوء الأحزاب، على منع استخدام رمزيات الأمة ومعتقداتها، في المنافسات الحزبية. وطالما أن ذلك لم يحدث حتى الآن، ستظل التناقضات المعرفية ومصاعب التوافق في ظلها، قائمة وجاثمة على صدورنا. بل إن المخاض العربي، سيكون طويل الأمد!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها