لاشك بأن القمة التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان التي عقدت في مدينة سان بطرسبورغ الروسية التاريخية، تحمل دلالات بالغة الأهمية وتؤشر لتأسيس تحالفات جديدة، شعر كلا الطرفين أنهما بحاجة إليها في خضم الأحداث العسكرية والامنية وحتى التحولات السياسية المتسارعة، على الرغم من حالة الجفاء التي وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى العدائية، والتي بلغت ذروتها بعد إسقاط سلاح الجو التركي طائرة حربية روسية فوق الأراضي السورية في بداية العام الجاري، والتي اتبعها الرئيس التركي بوقتها إصراره على عدم الاعتذار او التبرير لهذا العمل الذي اعتبرته روسيا عدائيا، وقد صوره الرئيس اردوغان وكأنه دفاعا عن الأرض والسيادة التركية .
وقد ردت عليه القيادة الروسية بالعديد من الإجراءات وأبرزها الاقتصادية التي كان لها الأثر البالغ على الأوضاع التركية وخلقت لها مشاكل ومعوقات من الصعب التغلب عليها، وهذا الحادث شكل إضافة جديدة إلى الملفات الخلافية بين البلدين والتي على رأسها تباعد المواقف حيال الوضع السوري والأحداث الخطيرة التي تدور فيه وعلى مقربة من الأتراك الذين شكلوا فيه من البداية لاعبا أساسيا من خلال احتضان بلادهم للجماعات الإرهابية المقاتلة في سوريا من خلال فتح الحدود على مصراعيها أمام المجموعات وأمام امدادهم بالأسلحة واستقبال (المتطوعين) للقيام ب(الجهاد) والالتحاق بهذه المجوعات بدءا من داعش وجبهة النصرة وصولا الى فتح قنوات الاتصال الجغرافية والسياسية عبر اراضيها ذهابا وايابا، اضافة الى استضافتها تشكيلات (المعارضة) على أراضيها وتقديم كل الدعم السياسي والمالي وشكلت لهم الغطاء الحامي لتحركاتهم .
إلا ان الأحداث الأمنية الكبيرة والخطيرة التي تعرضت لها تركيا بدءا من عمليات التفجير والعمليات الانتحارية وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة التي أثبتت الوقائع ان الإدارة الأميركية وتحديدا وكالة الاستخبارات المركزية ال سي أي ايه تقف وراء الكثير منها منذ البداية وحتى آخر عملية وخصوصا الانقلاب الفاشل، وهي حقيقة اضطرت الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي أعلن انه فوجئ فيه وأنه حدث بعيدا عن إرادته وأنه شعر بالعار لأن هذا الانقلاب خطط له داخل الأراضي الأميركية وتحت سمع ونظر ومن تخطيط جهازه الأمني المتخصص بالانقلابات الدولية بما فيها في الدول " الحليفة" لادارتها السياسية كما جرت العادة مع الكثير من الانظمة حول العالم من اميركا الجنوبية الى جنوبي شرق اسيا وصولا الى الشرق الاوسط وهي عرفت بانها عمليات ( قذرة ) يخطط لها وتنفذ من وراء الستار وتصدر أ وامرها من الغرف المقفلة والسرية .
ومن هذه العمليات تأتي عملية احتلال العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين وهي لم تكن بسبب امتلاك العراق ما قيل وقتها سلاح دمار شامل وأنه أصبح قاب قوسين او أدنى من تصنيع وامتلاك أسلحة نووية، وهي الخدعة التي استطاعت الإدارة الأميركية ومن خلالها اقناع العالم مشاركتها في احتلال العراق بعدما ابرزت تقارير وصوراً قيل انها التقطت عبر الاقمار الاصطناعية، والتي ثبت فيما بعد انها مزورة ومفبركة ومن صناعة جهازي ال سي اي ايه الاميركي والموساد الاسرائيلي، وهذا الاحتلال الذي كشفت التطورات انه عبد الطريق وشكل غطاء للمخططات الأميركية - الإسرائيلية وهي مخططات ارتكزت على أرضية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد الجيو سياسية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، حتى لو أدى ذلك إلى إشعال حروب عرف كيف بدأت ولا يعرف أحد كيف ستنتهي حتى الآن على الاقل .
وفي هذا السياق كان المثال الكردي في شمال العراق الأكثر وضوحا وسطوعا والذي سعى فيه الأكراد وبمساعدة أميركية - إسرائيلية لإقامة ((دولتهم)) الموعودة بدءا من شمال العراق وإيران وصولا الى شمال سوريا واخيرا الى جنوب تركيا . وهي بداية لم تكن لتنجح في ظل وجود نظام عراقي قوي وقيادة تؤمن بالوحدة القومية وتسعى إليه، ولهذا سعى حاكم الاحتلال الأميركي إلى حل الجيش أولا ورسم ملامح النظام السياسي الجديد الذي حول العراق من وطن موحد تتعايش فيه كل الطوائف والقوميات والمذاهب بصورة طبيعية وتاريخية إلى وطن مقسم ومنقسم على ذاته تتصارعه الخلافات المذهبية والعرقية وحتى القومية والتي تطورت بشكل كبير وخطير مع بروز ظاهرة قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الممولة من المخابرات الأميركية بغرض رفع منسوب الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي والذي مع تطوره واشتداده يصبح التقسيم هو الحل وخشية الخلاص من العنف الذي انتشر في كل المنطقة انتشار النار في الهشيم، كأحد تجليات ونتائج "لربيع العربي" المزعوم .
وبعد نجاح الشطر العراقي من المشروع الاميركي نتيجة ضعف القدرة العراقية من جهة ومسارعة الاكراد الى احكام قبضتهم على الشمال والمباشرة ببناء مؤسسات مستقلة
وتشكيل قوة عسكرية بدعم وتسليح أميركي مباشر لها تشكيلات الجيش العادي والنظام ونقلها من مستوى المليشيا إلى مصاف الجيوش الكلاسيكية ( جيش البشمركة) ورفع العلم الخاص يختلف عن العلم المركزي ، وكذلك المسارعة إلى عقد الاتفاقات الدولية تمهيدا لبناء قاعدة إقتصادية مستقلة من خلال عمليات تصدير النفط لحساب سلطتهم بعيدا عن أعين وسمع القيادة المركزية دون ان تستطيع منعها او إيقافها على الرغم من رفضها المبدئي والذي كانت بدايته الاتفاق البترولي بين (دولة) كردستان العراق مع إسرائيل وهو الأول من نوعه والذي على أساسه فتحت الأبواب في وجه الشركات الإسرائيلية التي تجاوز عددها ال 150 شركة مختلفة الاختصاصات خلال أشهر قليلة للمباشرة في تنفيذ مشاريع متعددة وضخ الاستثمارات لتمويل مشاريع متعددة المهام والوظائف كما حصل في المشروع السياحي في المنطقة التي يقال انها تضم قبر راحيل لإنشاء مدينة سياحية دينية خاصة لليهود كمقدمة لتطويرها إلى مدينة عادية تسمح بالسكن الدائم فيها بعد إنجاز بناها التحتية ومرافقها العامة وخصوصا المطار الخاص الذي يستقبل الزيارات والرحلات المباشرة دون المرور في مطار العاصمة في كردستان وحاليا يعمل في هذا المشروع حوالي 15 الف عامل ومختص وتحت حراسة وحماية آلاف من عناصر الموساد الإسرائيلي .
وعلى ضوء تداخل الملفات الإقليمية المتعددة والتي كانت القيادة التركية متوهمة بانها ستكون قادرة على التحكم بناء على وعود من الإدارة الأميركية والتي ثبت عدم صدقيتها وجديتها ليكتشف الاتراك انفسهم انهم ليسوا الا احجار وبيادق على رقعة الشطرنج الاميركية تحركهم كيفا شاءت وللمساعدة على تسهيل مرور مخططها الذي يصل في النهاية الى الذقن التركي من خلال ايجاد الوصلة الجغرافية ما بين أكراد تركيا مع أبناء جلدتهم في العراق وسوريا تختتم بالوصلة الجغرافية مع شمال ايران لاعلان قيام الدولة الكردية الكبرى في نهاية المطاف .
وهذا الامر دفع بالجيش التركي إلى دخول الأراضي العراقية بكثافة وقوة في محاولة لقطع الطريق أمام هذا التمدد وهذا الامر كرره الجيش التركي في الوقت الراهن في سوريا حيث اندفع الجيش التركي من جديد ومن خلال عملية اطلق عليها ( درع الفرات) الهدف منها أبعاد جيش الكرد إلى شرقي نهر الفرات دون ان ينتظر استكمال إعادة تطبيع العلاقة مع الحكومة السورية
وهي خطوة فرضتها محاولة الانقلاب الفاشل التي أضاءت أمام أعين القادة الأتراك على حقيقة الموقف والمخطط الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة وهو موقف أكد الشكوك التركية التي تمنع انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي الذي تعرقله الادارة الاميركية وليس بسبب ما قيل بانه نتيجة عدم قدرة الاتراك " المسلمين " الايفاء بشروط الانضمام الى تجمع اوروبي مسيحي .
وعلى ضوء ذلك تسعى الحكومة التركية إلى الحفاظ على مستقبلها وهذا السعي لايمكن ان يكتب له النجاح في ظل وجود توتر مع روسيا وصراع مرير مع الجار السوري ، وهو ما دفع بالرئيس رجب طيب اردوغان إلى إعادة ترطيب العلاقة مع روسيا وترميمها في الوقت نفسه إعادة تقييم دوره في سوريا وهذا ما دفعه إلى الاعلان عن نية بلاده للعمل الجدي للوصول إلى حل للأزمة السورية التي تواجه قيادتها نفس المخاطر بدءا من الخاصرة الكردية ونافذتها، والإعلان بأن بلاده ستضطلع بدور اكبر في التعامل مع الازمة السورية حتى لا تؤدي الى خطر تقسيمه كما تخطط وتسعى اليه الادارة الاميركية - الاسرائيلية التي بدورها ستكون الرابح الاكبر من قيام الدولة الكردية المزعومة ، في سياق مفهوم الشرق الأوسط الجديد. وتنفيذ اولى فصوله العملية عبر الكرد وحلمهم المزعوم الذي سيصل الى جنوب تركيا الجزء الاكبر والاكثر عددا وهذا بالضبط ما أرعب اردوغان والقيادة التركية بعدما اكتشفت الخديعة الأميركية (الحليفة الوهمية) وهو ما أدى إلى الارتماء في الحضن الروسي والاحتماء بمظلة القيصر بوتين وعباءته الدولية التي استطاعت وعلى مدى السنوات الاخيرة من استعادة حجمها وقدراتها على إفشال مخطط تقسيم المنطقة ومنها تركيا بطبيعة الحال . وعلى ضوء ذلك سارعت تركيا إلى دفع جيشها للتغلغل في الأراضي السورية وخوض المعركة الموضعية مباشرة بدءا من مدينة جرابلس وانتزاعها من يد داعش قبل ان يقوم جيش البشمركة الكردي الذي سيعتبرها في هذه الحالة اراضي محررة .
وهذا الامر أقدمت عليه تركيا بالسرعة القصوى وحتى قبل التنسيق مع الجانب السوري لكنها أبلغت تفاصيله الراعي الروسي الجديد على قاعدة تقدم الأهم وبعده المهم خصوصا وان الحوار مع النظام السوري لايزال في طور الاتفاق على مواجهة الخطر المشترك، وهو أمر اعتبر بحد ذاته نقطة تحول استراتيجية في الموقف التركي الذي يسعى إلى استمرار التواصل مع القيادة السورية عبر مختلف الأبواب الروسية والإيرانية وهي التي رحبت بدورها في استعدادها التوكل بمهمة تحسين العلاقة ما بين حليفها السوري وصديقها الجديد التركي وهذا ما عبر عنه أحد
القيادات الإيرانية بأن بلاده اقتربت كثيرا مع أنقرة للتفاهم حول المشكلة السورية، وهذا ما قلل من حدة رد الفعل السوري حيال التدخل العسكري التركي السريع والمكثف في ساحة المعركة في الشمال السوري .
وهذا يعني ان الطرفين أصبحا على قناعة بأن هناك الكثير من الملفات العالقة حتى اللحظة بينهما وأن هناك مصلحة مشتركة تستوجب معها مواجهة عدوهما المشترك الذي يهدد بتقسيم وتفتيت بلديهما، وهو بالضبط ماجمع الصديقين اللدودين تحت مظلة القيصر الروسي الذي يرى المصالحة الاستراتيجية الكبرى في بقاء البلدين موحدين وبالتالي احباط المشروع الاميركي - الاسرائيلي الذي يسعى اليه تحت حجة محاربة الإرهاب الذي رعاه وزرعه في أحضان المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل عام مع انه لم يكن ولا لمرة واحدة انه جاد في محاربة الإرهاب والتصدي له .
مخاطر قيام دولة كردية تجمع سوريا وتركيا تحت المظلة الروسية
30-08-2016
مشاهدة: 1856
احمد النداف
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها