لم يكن المتوقع أن تحصل تركيا على كل ما طلبته في المفاوضات مع (اسرائيل) وكذلك الأمر مع الطرف الثاني ، لأن المفاوضات تعني حين الندية الكاملة أو النسبية حتما وجود تنازلات من الأطراف ما هو مفهوم في علم التفاوض.
ولم يكن من المتوقع أن تضحي تركيا بمصالحها من أجل عيون مصالح دول أو جماعات أخرى مهما كانت هذه المصالح للآخرين تتمتع بقيمة أخلاقية عالية لأن تسويغ الأخلاق أصبح شيئا متاحا لتبرير المصلحة.
تركيا لم تنكر يوما علاقتها المتواصلة مع دولة الكيان الصهيوني حتى مع تغير الحزب الحاكم منذ 2002 وهي تعاملت مع الاسرائيلي دون أن تنقض ولو للحظة – حتى فترة (لجفاء) كما سماها (نتنياهو) – تواصل التعاون الأمني والاقتصادي (3 مليارات بالعام وفي تزايد) .
لم تكن المشكلة في كل من الطرفين المتفقين أي تركيا و(اسرائيل) فهما دولتان لا تنظران مطلقا أبعد من مصالحهما الثنائية والاقليمية، وعلاقاتهما الدولية، ولكن المشكلة في الأطراف أو الجماعات التي راهنت على الموقف التركي مفترضة أنه سيأخذ كل ما يستطيعه انتصارا للقيم والأخلاق العليا على حساب المصالح ذات الأولوية وهو الطرف الذي صُدم صدمة عنيفة فلجأ لمنطق التبرير ومنطق التخفيف من الصدمة.
ان الاتفاق الاسرائيلي التركي لم يزحزح تركيا عن منطقة حلف شمال الاطلسي أو السعي الحثيث لدخول الاتحاد الأوروبي أو لإيجاد أسواق جديدة (ها هي غزة تصبح سوقا جديدا) ولم يزحزحها عن المبادئ العلمانية وعن علاقتها المميزة مع أمريكا أو حتى (اسرائيل).
المواقف التركية الطارئة التي ارتبطت بالعدوان على السفينة التركية في بحر فلسطين قبالة غزة وجدت حلها بالتعويض المالي، فربحت تركيا في هذا الجانب كما ربحت اقتصاديا من تواصل العلاقات والأسواق، ورائحة الغاز أصبحت تنتشر بكثافة في المنطقة.
الطرف الخاسر من الاتفاق هو الطرف الذي سيتضرر من عودة التعاون الاستخباري والأمني الوثيق (رغم أنه لم يتوقف منذ 2009 ولكن سيقوى كثيرا الآن، حيث استمر اتفاق الشراكة الاستراتيجية، الذي شمل بنود عدة تتراوح بين تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون العسكري والتدريب.)،وهو الطرف الذي ذهبت به الظنون لإمكانية أن تكون تركيا (الخلافة) قادمة لتحرير غزة !
الطرف الخاسر من الاتفاق أيضا هو النضال الفلسطيني القوي عالميا لملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين وإدانتهم قضائيا، وسياسيا في الأمم المتحدة وهو ما تعهدت تركيا ل(اسرائيل) بالتنازل عنه-أي عن الملاحقات و المواقف بالأمم المتحدة- في الاتفاق.
الخاسر الأكبر هو نحن الفلسطينيين لأن الاتفاق إلى كل ما سبق يكرس شرعية انفصال غزة عن الجسم الفلسطيني ويُبقى على الحصار كما هو (يبرر أنصار تركيا على حق أو باطل أنها ليست المتسبب بالحصار وليست أكثر ملكية من أصحاب الدار).
نضيف لكل ذلك أن خسارتنا كمثقفين على الأقل واضحة بتراجع مفهوم (العدالة) المرتبط بالقيم الكبرى (الحق والعدالة والخير ...الخ) وبالأخلاق الجامعة ما أصبح حقيقة واقعة لكل من "ألقى السمع وهو شهيد" ، فلا الاسلاموي ولا القومي ولا الاشتراكي عامة مستعد لان يقف معنا كفلسطين مقدما فكرة وقيم العدالة والحق على مصالحه الذاتية، ومن هنا وجب بنا كفلسطينيين ألا نفترض بالآخرين أنهم سيُعلون من مصالحنا/قيمنا الوطنية أكثر منا ونحن عنها الغافلون.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها