بقلم: رفعت شناعة

إنَّ هذه الخلاصة السياسية لما يجري على أرض الواقع ترتكز على مجموعة حقائق أثبتتها التطورات، والاحداث، والتحولات في المنطقة، وامتداداتها الدولية، وحتى الآن ما زال الكيان الاسرائيلي يأخذ دور المحرِّك للفتنة، والمؤجج للصراعات، يعرف متى يتدخل عسكرياً، ومتى يأخذ موقف المتفرِّج المُتأهب.

هذا الدور الذي يمتاز به الكيان الاسرائيلي، وعنده الخبرة والتجربة العريقة في هذا المجال، زاد من حالة التناقض في المواقف، وسخونة الصراع الداخلي، وتفاقم حالة الإحتقان، وانسداد آفاق الحوار، ومضاعفة التسلُّح كمَّاً ونوعاً، طالما أن الحلول مُستبعدة، والتفاهم ممنوع، والأبواب مغلقة.

المشكلة أن مختلف الأطراف تدرك حقيقة الأمور، وتدرك شاءت أم أبت أنها منخرطة في أتون أحداث لا تتمناها، وأنها مجبرة على اتخاذ المواقف حتى لا يجرفها تيار الصراع، وأنها مضطرة لتكون في إطار اصطفافات إقليمية ودولية لحماية وجودها وحدودها.

ومن حسن حظ الكيان الاسرائيلي أنه وجد حليفاً إستراتيجياً أبدياً وفياً له وهي الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة بمخططاتها، وتحالفاتها، وبرامجها المختلفة تأخذ دائماً بعين الاعتبار مصالح هذا الكيان الاسرائيلي الصهيوني الذي وُجد أصلاً في المنطقة ليس من أجل التعايش مع الآخرين، وإنما من أجل قيادة الصراعات والفتن المذهبية والطائفية، وممارسة الاغتيالات بحق الشخصيات القيادية الفلسطينية، واللبنانية، والعراقية وغيرها، والاحصائيات متوافرة خاصة العلماء الأكاديميين ورجال الدين والفكر، والقيادات السياسية والعسكرية.

نتوقف عند مجموعة حقائق فرضت نفسها:

أولاً: على المستوى الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي فقد أقدمت القيادة الإسرائيلية على الانسحاب الأحادي من داخل قطاع غزة بما في ذلك المستوطنات، وهذا القرار الذي اتخذه شارون أسَّس فيما بعد وفي إطار الخطة المرسومة وتهيئة الظروف لإعلان الانقلاب على رأس الشرعية الفلسطينية الرئيس أبو مازن، وممارسة أشد أشكال العنف والتنكيل والتعذيب بحق أبناء حركة فتح والفصائل الذين ليس لديهم مشروع أو نية للدخول في حرب أهلية، قناعة من الحركة بأن المستفيد في النهاية من أي حرب أهلية هو الاحتلال الإسرائيلي، ودفعت حركة فتح الثمن علماً أن جماهير غزة في الإنطلاقة الأخيرة أذهلت العالم عندما تجمَّع أكثر من مليون فلسطيني للاحتفال بذكرى إنطلاقة الثورة، إنطلاقة حركة فتح. وهكذا من خلال الانقسام تحقق الانتصار التاريخي ليس لحركة حماس، وانما للعدو الاسرائيلي الذي كرَّس بهذه الحرب الاهلية واقعاً جديداً اسمه الانقسام الفلسطيني، وهذا شكّل بدوره غيابَ الوحدة الوطنية، والانتقال إلى مجتمع غزاوي جديد معادٍ لكل أشكال الديموقراطية، والحوار، وحق الانتخاب، وحرية التعبير، وهيمنة القوة التنفيذية والأجهزة الأمنية في القطاع، من أجل التنكيل والاعتقال والتعذيب، وتحويل مجتمع غزة من مجتمع ديمقراطي مكافح من أجل قضاياه الوطنية إلى سجن كبير، والممارسة العدائية الواضحة ضد قيادات فتح والفصائل، هذا التحوَّل في قطاع غزة بعد الانسحاب والانقلاب لا يشكل إنجازاً وطنياً، وانما عمَّق الانقسام، واستبعد المصالحة، وغيَّب الوحدة الوطنية، وسبّب انقساماً وطنياً، وجغرافياً، وسياسياً، وهذا كلُّه شكّل إنجازاً لصالح العدو الاسرائيلي الذي لا يمكن أن يضحي به بسهولة.

ولذلك رغم كل التضحيات التي بذلتها قيادة المنظمة وحركة فتح، ورغم التنازلات التي قدمتها قيادة حركة فتح لحركة حماس من أجل تجاوز الماضي الأليم، ماضي العذاب والمأساة، ورغم التهديدات الاميركية والاسرائيلية للرئيس أبو مازن شخصياً بعدم التوقيع على وثائق المصالحة إلاّ أنه كان دائماً السبَّاق إلى التوقيع على الوثائق من أجل الخلاص من الطَّامة الكبرى. ومواقف حركة فتح والمنظمة من موضوع الاتفاقات الموقعة واضحة وثابتة، وخاصة موضوع تشكيل الحكومة، وموضوع الانتخابات كمدخل لإنهاء الانقسام، ومع الأسف، ومع كامل الوضوح، فهناك من يصر في الساحة الفلسطينية على عبارة "طرفا الانقسام" وتحميل المسؤولية لفتح ولحماس بنفس المستوى، وهذا المقياس حقيقة هو ما شجَّع على استمرار الانقسام، وليس من حق أي طرف أن يحمِّل حركة فتح مسؤولية الانقلاب والانقسام وهي التي دفعت ثمن هذا الانقلاب من أبنائها ومؤسساتها، فإذا كان أي طرف لا يريد أن يسمي الأمور بمسمياتها لأسباب لا أريد التدخل فيها ليس من حقه أبداً أن يسجَّل هذا الحدث المؤسف وطنياً على حركة فتح، ونحن نعتبر هذه التسمية استكمالاً للانقسام والانقلاب. لأنّ حركة فتح صاحبة المشروع الوطني بأمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية.

الرئيس أبو مازن له مصلحة كبرى في إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة حتى يلملم شتات شعبه، ويوحِّد جهوده، ويضع الخطط والبرامج التي تطبق في الضفة وقطاع غزة في آن.

ثانياً: إنّ الواقع العربي الرسمي لم يستطِع الخروج بعد من دائرة الهيمنة الأميركية، ولا الحد من التدخلات الاميركية الفجَّة والوقحة في تحديد معالم مستقبل الأمة العربية خاصة بعد ما سُمِّي بالربيع العربي، والولايات المتحدة ما زالت تدير الاحداث والتطورات بما يتناسب مع مصالحها، مصالح الكيان الاسرائيلي.

ولا شك أن الاتفاق الاميركي مع حزب الاخوان المسلمين بما يتعلق بالحراك الشعبي والشبابي في البلدان العربية ما زال مسيطراً إلى حد بعيد، وكذلك ما زالت الولايات المتحدة، هي المستثمر الأول له، وهي التي توجهه بالاتجاه الذي يبقي الاضطراب قائماً، وتعمل على إبقاء الصراع بين أطراف الوطن الواحد مستمراً، والتشجيع دائماً على عدم الاستقرار في المجتمعات التي شهدت الحراكات الشعبية، وهذا ما يرعب الانظمة الموجودة، وحملها على الرضوخ أكثر لإرادة الولايات المتحدة كونها الأقدر على التحكم بالجوانب الاقتصادية، ومصادر التويتر والتصعيد الأمني، والابتزاز السياسي، وهي إضافة إلى ذلك صاحبة القرار في تأمين الدعم العسكري أو منعه لإحداث خلل في موازين القوى، أو انتصار طرف على آخر، وللأسف فإن ذلك كله يتم على أرضية الاهتمام بالأولويات الاسرائيلية، في المنطقة، والمطلوب الإلتزام بعدم تقديم الدعم المطلوب لفلسطين وقضيتها ومقدساتها وأهلها، وإدخال السلطة الفلسطينية في أزمات حادة اقتصادياً من أجل تركيعها وتدجينها، وتجويعها حتى تستسلم للشروط الاسرائيلية المطروحة، والتنازل عن الثوابت الوطنية الفلسطينية، وتجريد الجانب الفلسطيني وتحديداً "م.ت.ف" وقيادتها من أية إمكانية لقيادة مجتمعها، أو أية إمكانية لتفعيل المقاومة الشعبية التي تتطلب أمرين مهمين مفقودين الأول هو الوحدة الوطنية التي دمَّرها الانقسام، والامكانيات الاقتصادية لمجتمع يريد أن يقاوم خاصة بعد تجفيف المصادر المالية من قبل أميركا والكيان الإسرائيلي وغالبية الدول العربية، والدول المانحة.

ثالثاً: الكيان الاسرائيلي أخذ توصية واضحة نُشرت في الصحافة الدولية عامة، وهذه التوصية وردت في مؤتمر هرتسيليا الثالث عشر الذي عقدته في 11/3/2013 والذي أوصى بالتالي:" ضرورة تكريس الصراع السني الشيعي من خلال السعي إلى تشكيل محور سني من دول المنطقة أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والاردن ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة ضد محور الشر الذي تقوده إيران ويضم سوريا وحزب الله محور الشيعة".

هذا هو النص الحرفي للتوصية الإسرائيلية، والذي حدث على أرض الواقع أن الأطراف المعنية لم تتمكن من منع هذه الفتنة التي خططت لها ورسمتها "إسرائيل" بوضوح، وها نحن ندفع الثمن، لأننا شئنا أم أبينا دخلنا هذا الأتون المرعب، والعدو الاسرئيلي في قمة السعادة لأنه حقق جزءاً كبيراً من حلمه. ويطمح إلى حصادٍ اكبر وأنضج عبرَ دفع الأمور إلى مزيد من الحرب والصراع في سوريا، وتغييب الحلول السياسية للأزمة الراهنة والتي تعطي الفرصة لأبناء سوريا للجلوس معاً وإعطاء سوريا الوطن الأولوية، وإيقاف حالة النزيف، هذه الحالة التي دمَّرت مستقبل الوطن، والأطراف في سوريا تنتظر ماذا سيقرر الجانبان الاميركي والروسي والاطراف الدولية.

رابعاً: على الصعيد السياسي فإن الجانب الإسرائيلي لم يتضرر لأن الدول العربية التي شهدت حراكاً شعبياً لم تغيِّر من مواقفها تجاه الكيان الإسرائيلي فالاتفاقات ما زالت قائمة، وهناك التزام بالخطوط العريضة السياسية تجاه العدو الإسرائيلي. وللأسف أكثر فإن القضية الفلسطينية في هذه الآونة تم تجاهلها سياسياً وإعلامياً، ومالياً.

وفي الإعلام العربي أصبح الخبر الفلسطيني هو الخبر الأخير وهذا ما عزَّز الدور الإسرائيلي العنصري والعدواني ضد الشعب الفلسطيني دون رقابة دولية أو عربية.

خامساً: بعد كل ما سبق هل ستتمكن الأطراف العربية من رفض كل ما يخطط لها، وكل ما يُملى عليها حتى لو أغضبت الولايات المتحدة التي لا ترى أمامها سوى المصالح العليا الأمنية لإسرائيل العنصرية؟؟ الأيام القادمة يجب أن تحمل جديداً على هذا الصعيد، ونذكر بأننا أصحاب النفط، والأموال، وأصحاب التاريخ والأمجاد أيضاً.