بقلم: عدلي صادق

في السنة نفسها، التي تأسست فيها جماعة "الإخوان" في الإسماعيلية في العام 1928؛ جلست سيدة حكيمة، هي "سلامة" أم زايد بن سلطان آل نهيان، مع أبنائها الأربعة، لكي تأخذ منهم عهداً!

 

تلقى الرجل الطامح الى دور في التاريخ، معونة المستعمر، لكي يؤسس جمعية تحت لافتة التقوى: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أما السيدة الحكيمة، أم زايد وإخوته الثلاثة؛ فقد أرادت من أولادها أن يقطعوا أمامها عهداً على أنفسهم، ألا يؤذي واحدهم الآخر، وأن يتولى الأصلح من بينهم دونما أذى من الآخرين، وألا يصارعوا على شيء يتعلق بالحكم، وألا يضر أي منهم، بربعِه وبالمسلمين!

 

وحسب منطوق البيان الأول، الذي كتبه الرجل الطامح، تبدت الرغبة في الخداع، من خلال محاولة إرضاء الناس جميعاً. ففؤاد الذي يراه المصريون وقتذاك، طاغية مستبداً فاسداً، هو "المليك المُفدى" والوزراء مُصلحون، والأمراء محبوبون، ورجال البرلمان موقرون وغيورون على مصلحة الأمة. كان الرجل يؤسس لشيء في نفسه، بينما الشيخة "سلامة" تحدثت لأبنائها بصراحة، توخياً لوئام ممتد، في المجتمع وبين الناس!

 

بعد ربع القرن، كانت "جماعة" الأول، قد أنشأت "نظاماً خاصاً" لتنفيذ أعمال الاغتيال، وقتلت رئيسين للوزراء، من أقطاب ثورة 1919 أولهم وقعت جريمة قتله، انتقاماً، بدافع الظن أنه كان وراء سقوط البنا في الانتخابات التي ترشح لها عن الإسماعيلية، بعد أن غادرها، وهو ليس من أهلها أصلاً. ذلك فضلاً عن قتل قضاة وساسة وضباط شرطة، واقتراف تفجيرات طالت كنيسة في الزقازيق ومركزاً لحزب "الوفد" في بور سعيد، جعل البور سعيديين (6/7/1946) يحرقون مقر "الإخوان" ويدمرون ناديهم الرياضي، ويحاصرون البنا في أحد المساجد، فيما هو يرفع المصحف لكي ينجو.

 

على مر ذات المسافة الزمنية، ظهر دور أبناء سلطان بن زايد الأول، والشيخة "سلامة" وتأكد التزامهم بوعدهم لأمهم، حتى آلت الأمور الى زايد مؤسس نهضة "الإمارات" وعمود خيمة اتحادها ذي الصيغة الفريدة، والرجل الذي قال فيه الرحالة الأجانب، "قوي الطلعة، ذكي الملامح، كريماً هادئاً، خبيراً في الناس وفي المكان". ظل زايد، يغرس الأشجار ويبني المساكن والمدارس، بقدرات متواضعة، ويدفع حياة أهل البلاد دفعاً لا هوادة فيه، الى التقدم والى نمط حياة كريمة، ويشكم نزعات التباغض بين القبائل، فيحافظ لهم جميعاً على خصب وسلامة أراضي الرعي، وعلى مسالك الرزق!

 

وخلال ربع القرن، بعد العام 1928 الذي تأسست فيه "الجماعة" وجلست الشيخة "سلامة" مع أبنائها؛ كان حسن البنا ومن معه، يذهبون للإنجليز وللأميركيين في سفاراتهم (ولا مجال للتفصيل بالاسماء والتواريخ) يعرضون الخدمات ويطلبون "كاتالوجات" السلاح الذي حصلوا عليه، لاعتمادها في التدريبات؛ بينما رجال أبو ظبي، يتدبرون سبل الخلاص من الإنجليز ويراكمون عناصر الاستقلال والحياة المستغنية عن كل مستعمر!

 

وخلال ذاك الشوط من الزمن، كانت الشرائح الحاكمة، في الإمارات التي انبثقت من مجتمعها ومن مضارب قبائلها، "بو فلاح" و"بوفلاسة" و"القواسم" وغيرها، موصولة بتاريخها، بينما انبثق "الإخوان" عن الإدارة الإنجليزية لهيئة قناة السويس، كنسخة "إسلامية" كربونية، لمنظمة انجليزية مسيحية انتشرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، وكتب عنها "ماركس" تسمى "جيش الخلاص" Salvation Army لمواجهة التنوير، وللذود عن الأوساط الرجعية ومصالحها، مستغلة الدين، وتقوم على دعامتين: شبكة منظمات "خيرية" ونظام عسكري ميليشياوي!

 

جماعة "الإخوان" وجماعة "جيش الخلاص" كلٌ منهما طرحت نفسها كمتعهدة لحراسة الفضيلة وكوصيّة على إيمان الناس، وصاحبة أهلية لإقامة العدل بينهم، وتقزيم المجتمع وإنكار القضاء. ففي أهم "رسائل" حسن البنا، الذي هو في التقييم الموضوعي أقل غلاظة من "القُطبيين" الذين جاؤوا بعده؛ هناك "رسالة التعاليم" التي تضمنت وتحديداً في "التعليمة" المرقمة 25 الدعوة الصريحة الى "مقاطعة المحاكم الأهلية، وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات، التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة". وهنا، يقصد البنا بالإسلام، إسلام "الجماعة" التي ستنوب عن المجتمع، ويقصد بـ "الدعوة" تلك الدعوة الى "الجماعة" وليس الى الله. أما المواطنون المسيحيون، فليس أمامهم إلا أن يكونوا تابعين صاغرين، راضين بـ "المقسوم" وبما ترميه الأقدار لهم من قروش، أو بالقروش التي يرمونها بين بعضهم بعضاً، لأن "المرشد" في تعليمته رقم 21 يحدد على أساس الديانة، شرط التعامل الاقتصادي في المجتمع:"أن تخدم الثروة الإسلامية العامة، بتشجيع المصنوعات والمنشآت الإسلامية الاقتصادية، لكي لا يقع قرش في يدٍ غير إسلامية"!

 

أما في المدى الذي بلغته "تعليمات" الشيخة "سلامة" فقد نشأ قضاء الدولة، لكي يخدم المجتمع، وتأسس إعلام عصري شامل وجامع، وتكاثرت الأندية الرياضية المفتوحة لكل ذي مشرب، وانفتح السوق للناس الذين خصص لهم رب العالمين سورة باسمهم في قرآنه الكريم، مؤكداً على التداخل الطبيعي والفطري بين المسلمين والمجتمع الإنساني، وفق "فطرة الله التي فَطَر الناس عليها" حسب سورة الروم!

 

ففي "الإمارات" وغيرها، يذهب القرش ويجيء، بين المسلم والمسيحي والسيخي والهندوسي والبوذي. فلا ضرر ولا ضرار!

 

في داخل هذه الفقاعة من التاريخ، يخرج بين الحين والآخر، ضحل معتوه، من "الجماعة" في مصر، تميز بطول لسانه، وبضآلة ثقافتة، وبعفونة روحه، وبعدائه المسعور لكل ما هو وطني وقومي؛ فيهاجم "الإمارات" التي عاشت دهوراً تحمي نفسها وتتحقق كمجتمع له هويته، وفي بعض مواضع التاريخ، كانت تحمي غيرها وتهجم كما فعلت "القواسم" التي حشد الإنجليز جيوشهم لإسكاتها. يهاجم "الإمارات" التي بلغ ما بذلته للعرب وللمسلمين، في منتصف سبعينيات القرن الفائت 76% من دخلها. هذا الضحل، يتوعد شعب "الإمارات" العربي المسلم، بتسونامي إيراني يحيلهم الى عبيد. كأن العرب الماكثين على ضفة الخليج، مكتوبين على الخارطة بالطباشير، لكي يسهل محوهم، ولكي يطرب أغبياء الطبعة العربية من "جيش الخلاص" الإنجليزي.

 

المصريون ماكثون كمجتمع متعدد، رغم أنف المأزومين الذين استحثوا بغضاء الناس لهم عندما خرجوا من قماقمهم. والإماراتيون والعرب في الخليج ماكثون أبداً. الزائلون حتماً، هم خصوم المجتمع بمؤسساته القضائية والخدمية، وهم الناكرون لحق الناس في التعدد الثقافي والديني وفي الحرية والعدالة والمواطنة المصانة. والزائلون حتماً، هم المتنطحون لمهمة مستحيلة، قوامها ممارسة الوصاية على الناس، ورسم خطاها، وصياغة عقلها بالنقطة وبالفاصلة. إن كل ما ينطقون به الآن، يؤدي الى نتائج عكسية. استعاد الناس كبرياء ورونق وزهد جمال عبد الناصر، لأنهم يبغضونه. فاللاعبون في الظلام، المفعمون حقداً، المتخمون الفائحون، أرباب "البزنس" الطفيلي والدسائس، لا يرمون أحداً بشيء إلا وارتد عليهم!

 

ربما لم تكن الشيخة "سلامة" تفك الخط، بينما حسن البنا كان مدرساً للخط العربي في الإسماعيلية، عندما منحه الإنجليز 500 جنيه تكفي وقتذاك، لشراء أراضي ضاحية مصر الجديدة. ولكن شتّان بين مسار الخط في الحياة وفي التاريخ، الذي مضت عليه جماعة "المرشد" والخط الذي مضى عليه زايد الذي أحبه العرب والمسلمون قاطبة، لخصاله الحميدة. فما أبعد الشبه، بين "الحكيم" وجماعة "العريان". بين من يغرس الأشجار، حتى بلغت عشرات الملايين، ومن يغرس البغضاء، سعياً لأن يصبح الناس أشتاتاً ولأن يذهبوا الى اصفرار الخريف!