حين كنا، المناضل البريطاني صديق فلسطين والقضايا العادلة جورج غالاواي وأنا، نقف بين الجموع المحتشدة، من فلسطينيين وعرب واجانب حول مستشفى «برسي» العسكري الفرنسي، لنتابع بقلق شديد المعلومات عن صحة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وقد دخل غيبوبة بعد نقله إلى باريس من مقره في المقاطعة في رام الله، في مثل هذه الأيام قبل 11 عاماً، سألت مناضلاً فلسطينياً لازم الرئيس أبو عمار خلال حصاره الطويل في المقاطعة بعد الاجتياح الصهيوني الثاني للمدن الفلسطينية عام 2002: لماذا تصرّ على أن أبا عمار تعرّض «للسم» القاتل، أجابني ذلك المناضل بالرواية التالية:
حين كنا في المقاطعة بعد انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) كان الصهاينة يطاردون مجاهداً من حركة حماس اتهموه بالوقوف وراء العديد من العمليات الاستشهادية آنذاك، ويطالبون السلطة الفلسطينية باعتقاله، بل كان الرئيس الأميركي نفسه يتصل بعرفات أكثر من مرّة في اليوم الواحد طالباً رأس ذلك المجاهد.
وفيما كنا مجتمعين مع أبي عمّار في أحدى قاعات المقاطعة، دخل علينا أحد ضباط الأمن معلناً بصوت عالٍ، لقد عرفنا المكان الذي يختبئ فيه فلان (أي المجاهد المطارد)، استدعى أبو عمّار الضابط مستفسراً بسرية بالغة عن المكان المقصود، وما أن خرج الضابط المذكور حتى استدعى القائد الفلسطيني أحد الضباط الذي يثق بهم كثيراً وأنفرد به قائلاً: اذهب بسرعة إلى ذلك المجاهد قبل أن تصل الدورية المكلّفة بإلقاء القبض عليه وأبلغه أن يغادر فوراً مخبأه.
وهكذا كان، وأفلت المجاهد المطارد من الاعتقال مرة أخرى، فيما كان أبو عمّار قد أوحى للحاضرين جميعاً، ومنهم مَن كان يعرف الرئيس الفلسطيني بعلاقته بالسفارة الأميركية، أنه كان جاداً في ملاحقة المجاهد المطلوب.
وختم المناضل المقرّب من عرفات قوله: أتعتقد أن شارون ومعه جورج بوش الابن سيسمحان لعرفات بالبقاء حيّاً وهو الذي يدعم بكل الوسائل انتفاضة شعبه ضد الاحتلال... وأضاف أن معلومات لديه تؤكّد أن الرئيس الأميركي (بوش) قد رفض طلباً من الرئيس الفرنسي آنذاك (شيراك) التوسط مع شارون لإعطائه اسم السم الذي زرعه عملائه في جسد أبي عمار لحقن هذا الجسد بالدواء المضاد له على غرار ما حصل لخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في عمان حين طعنه عميل للموساد طعنة سامة، فأصر الملك حسين يومها على معرفة نوع السم كشرط لإطلاق العميل مقابل إطلاق سراح مؤسس حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين أيضاً.
ويروي المفكر الفلسطيني منير شفيق أحد ابرز الفتحاويين المعارضين لنهج التسوية السياسية، لاسيّما بعد حرب تشرين 1973، وأشدّ المنتقدين لاتفاق أوسلو وسياسات القيادة الفلسطينية بعده، أنه حين زار غزّة بعد الحرب عليها عام 2012، سمع من المقاتلين كيف كان أبو عمّار يخزّن السلاح في غزّة ويوزعه على المقاتلين هناك، وأضاف شفيق في كلمة تأبينية له في «دار الندوة» لأحد مناضلي فتح الأسرى (الشهيد ميسرة ابو حمدية) الذي استشهد في نيسان 2013 إثر خروجه من السجن «أنه لو كان يعرف ماذا كان يفعل ياسر عرفات حينها لكان امتنع عن مواقف حادة اتخذها بحقه...».
وأذكر أيضاً في أحد أيام حزيران 1994 (بعد عام على اتفاقية أوسلو تقريباً)، وكنت عائداً من الخرطوم عبر مطار القاهرة، التقيت بالعقيد فتحي الذي كان أبرز مرافقي أبي عمّار، ثم قائد البحرية بعد العودة إلى فلسطين، وقلت لفتحي «ماذا فعلتم بنا نحن الذين ربطنا حياتنا بقضية فلسطين، لماذا تخليتم عن حلم أمّة بأسرها في اتفاقية أوسلو؟...». أجابني فتحي المقرّب جداً من أبي عمّار: أود أن أطلعك على سر أرجو أن يبقى بيننا، قلت له وما هو السر؟ أجاب بثقة: «منذ وصولنا إلى فلسطين، أبلغني أبو عمّار أن أبدأ بفتح معسكرات تدريب لأشبال الضفة وغزّة استعداداً لانتفاضة جديدة...».
اعتقدت أن كلام فتحي هو من قبيل تخفيف أثار صدمة أوسلو عليّ وعلى امثالي، حتى أطل يوم 28 أيلول/سبتمبر 2000، وخرجت انتفاضة الأقصى التي كانت وراء تحرير غزّة، وتفكيك مستوطناتها، كما كانت سببا في اغتيال ياسر عرفات بعد أن فشلت كل المحاولات في «ردعه» عن خيار الانتفاضة.
هذه الروايات والعديد غيرها، توضح كيف أن أبا عمّار حرص في كفاحه الطويل من أجل تحرير بلده على أن يوازن، وبدقة محسوبة، بين العمل الكفاحي الميداني المسلح والشعبي، وبين العمل السياسي والدبلوماسي، مدركاً أنه بدون المقاومة والانتفاضة لن يلتفت العدو ومعه العالم إلى شعب فلسطين، كما أنه بدون العمل السياسي والدبلوماسي من الصعب استثمار كفاح شعبه وتضحياته في تحقيق مكاسب ملموسة...
نستذكر هذه الوقائع اليوم، وشعب فلسطين ينتفض في كل أرض فلسطين، مبتكراً وسائل نضاله بالطعن والدهس وغيرهما مواجهاً بالسكين والحجارة ترسانة عدوه النووية... لنقول إن ما يحتاجه شباب فلسطين وشاباتها، والمرابطون في الأقصى والمرابطات اليوم هو احتضان شامل من القيادات والفصائل كافه عبر موازنة «عرفاتية» دقيقة بين الفعل المقاوم والعمل الدبلوماسي، فلا تكون الانتفاضة دون أفق سياسي، ولا يكون العمل السياسي بديلاً عن الفعل المقاوم...
أبو عمّار... كم يفتقدك شعبك هذه الأيام، بل كم يفتقدك شباب الانتفاضة البواسل والرائعون وهم يشقون الطريق إلى حرية وطنهم...
وهنا أذكر حوار جرى بيني وبين القائد الكبير ابو عمار إبّان حصار الصهاينة لبيروت عام 1982، لماذا يتهمك البعض بالمراوغة والمناورة؟ ضحك أبو عمّار وقال: «كيف تريدني أن أتعامل مع حكام يكذبون على شعبي كما يتنفسون، وهل أكشف أمامهم كل أوراقي، والله لن أفعلها وليقولوا ما يقولون... ثم هل راوغت يوما مع المناضلين الصادقين...».
ربما وقع ياسر عرفات احياناً في عدم الدقة في تقديره السياسي، لكنه لم يقع أبداً في «خطيئة» الاستسلام للعدو رغم كل ما أبداه من مناورات ومراوغات...
كان يعرف قيمة البندقية الفلسطينية التي كان ورفاقه في «فتح» هم الذين أعادوا إليها الاعتبار في 1/1/1965، لذلك كان يكلف أقرب المقرّبين إليه بتهريب السلاح حتى لحظة رحيله قائلاً: ارموا السلاح في شاطئ غزة فسيخرج الصيادون ليجمعوه ويسلموه الى شعبنا، لا فرق بين تنظيم وآخر، المهم ان تصل الى الشعب الفلسطيني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها