أيدت عدة دول أوروبية، بينها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا، تبني تقرير لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة.
ورغم الخطر الذي تستشعره إسرائيل من أثر هذا التقرير على ميل المحكمة الجنائية الدولية نحو التحقيق في هذه الجرائم، فإنها تخشى خطراً لا يقل عنه، وهو تعزيز جهود مقاطعة إسرائيل في أوروبا. وقد مضى الوقت الذي كانت فيه حكومات إسرائيل تستخف بهذا الخطر، وصار كثيرون من القادة يعتبرون المقاطعة الاقتصادية والثقافية خطراً وجودياً.
وفي إطار ترجمة هذا الخطر إلى معطيات ملموسة فإن البنك المركزي في إسرائيل نشر مؤخرا تقريراً يحذر فيه من اهتزاز العلاقة الاقتصادية مع أوروبا، وهي الشريك التجاري الأكبر لها. وبديهي أنه ليس ثمة تكافؤ بين إسرائيل وأوروبا في هذه الشراكة، إذ أن أوروبا هي الشريك التجاري الأول لإسرائيل، في حين أن إسرائيل لا تحتل سوى المكان 28 في الترتيب الأوروبي للشراكة التجارية. ولا تشكل الواردات الأوروبية من إسرائيل إلا 0.7 في المئة، في حين أن الصادرات إليها أيضاً ليست أكثر بكثير من واحد في المئة. والصورة مغايرة تماماً من الجانب الإسرائيلي، حيث تصدر إسرائيل لأوروبا 30 في المئة من صادراتها وتستورد 41 في المئة من وارداتها.
عموما ينبع تحذير البنك المركزي أساساً من إدراك لواقع أن انعدام أفق التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين واستمرار الاستيطان كفيل بتعميق الأزمة، وتوسيع المقاطعة التي بدأت بمنتجات المستوطنات.
وإذا ما نفذت أوروبا تهديدها بمقاطعة منتجات إسرائيل فإن تقرير بنك إسرائيل يشير إلى حجم الخسائر المتوقعة. وهو يبين أن سيناريو مقاطعة إسرائيل بالكامل يعني ضرب الصادرات الإسرائيلية البالغ قيمتها 84.4 مليار شيكل (حوالي 22 مليار دولار)، وهو ما يعني مساً بالناتج القومي العام لإسرائيل بحوالي 40.35 مليار شيكل، وتسريح حوالى 36 ألف مستخدم. أما في حال استمرار المقاطعة بشكل طوعي للمنتجات الإسرائيلية، أو تنفيذ وضع شارات على بضائع المستوطنات، فإن الضرر على الصادرات يقدر بـ 1.7 مليار شيكل وتراجع الناتج القومي العام بحوالي نصف مليار شيكل وتسريح 435 عاملا.
وفي ظل منهج الغطرسة الذي تنتهجه حكومة بنيامين نتنياهو فإن هناك ميلاً لإظهار أن لدى إسرائيل بديلا لأوروبا، وهو التوجه نحو آسيا. وهذا ما تجلى في المحاولات الإسرائيلية الجادة لتحسين العلاقات مع دول آسيا، خصوصاً اليابان والصين والهند. وتدعي أوساط إسرائيلية أن الميل لتنويع الشركاء الاقتصاديين يهدف أساساً إلى تقليص الركون إلى الشريك الأوروبي، الذي بات يثقل على إسرائيل بمطالبه السياسية.
ولكن لا خلاف بين الخبراء الاقتصاديين في إسرائيل حول واقع أن ما تعلنه حكومة الاحتلال لا يعني بالضرورة القدرة على تنفيذه، وإذا توفرت القدرة فإن الأمر مستحيل في المدى القريب. وهناك وعي كامل لدى الخبراء بأن لجوء أوروبا إلى فرض نظام عقوبات على إسرائيل يلحق بالأخيرة أضراراً واسعة. ويشدد هؤلاء على أنه خلافاً لمزاعم نتنياهو، ليس بوسع إسرائيل في المدى المنظور أن تبعد الخطر الأوروبي عن طريق تحويل توجهاتها نحو أسواق آسيا ودول أخرى.
ومشكلة إسرائيل أن غالبية بضائعها إلى أوروبا منتجة في شركات متعددة الجنسيات تقيم مراكز في إسرائيل، أو شركات إسرائيلية لها فروع في أوروبا. لذلك فإن تطوير المقاطعة يشكل مساً كبيراً بهذه الشركات وقد يضر بإنتاجها في أوروبا، وينظر إلى شركة «تيفع» لإنتاج الدواء كمثال بارز على ذلك. كما أنه يصعب على إسرائيل إيجاد بدائل آسيوية لأسواقها الأوروبية ما يجعل التهديدات الإسرائيلية بالتبادلية مجرد هراء. وهذا يجعل من الكلام عن أن التجارة مع آسيا أقل حساسية لإسرائيل من التجارة مع أوروبا أقرب إلى شيك من دون رصيد.
ومن الواضح أن تبادل العقوبات بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي يعني في جوهره شل الصادرات الإسرائيلية، مقابل احتمالات نشوء صدامات بين قوى لها مصالح في التجارة مع إسرائيل وحكومات بلادها. والفارق واضح وهو في غير مصلحة إسرائيل.
وربما أن الأمر وجد تعبيراً له في كلام وزير المالية الإسرائيلي السابق يائير لبيد، قبل حوالي شهر، حين أكد أن على الأوروبيين الذين سيقاطعون منتجات المستوطنات أن يميزوا بين ما إذا كانت منتجة في "معاليه أدوميم" أو في نهاريا. وقال إن وضع إشارات على منتجات المستوطنات سيقود فعلياً إلى مقاطعة شاملة للمنتجات الإسرائيلية. وفي نظره فإن الأوروبي المقاطع حينها سيقول "لا أريد بضائع إسرائيلية، وهو ما سيلحق الضرر بأكثر من 30 في المئة من صادرات إسرائيل". وطالب لبيد حكومة إسرائيل بالانتباه إلى تدحرج القضايا نحو اتجاهات غير متوقعة. وقال "لم يتوقع أحد ما جرى في الفيفا، وأعتقد أن شيئا ما سيجري في الألعاب الأولمبية".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها