مع نهاية الحرب الباردة التي أطاحت بالإتحاد السوفيتي وحلفائه، وإنتصار الرأسمالية العالمية وحلفائها فيها ... تراجع دور القوى التقدمية والقومية والوطنية والديمقراطية في قيادة الجماهير في الوطن العربي عموماً، وتصدر المشهد الجماهيري جماعة الأخوان المسلمين ومستنسخاتها، والتي إعتبرت نفسها شريكاً للإنتصار مع الرأسمالية العالمية، والعالم الحر الذي هزم الإتحاد السوفيتي ومنظومته الإشتراكية، كما إعتبرت نفسها شريكة في الإنتصار على قوى اليسار والحركات الوطنية والقومية التقدمية والديمقراطية على المستوى الوطني في جميع الدول العربية، وبالفعل فقد تراجع دور تلك القوى في قيادة الشارع والجماهير، عما كان عليه الوضع في الربع الثالث، وإلى حد ما في الربع الرابع من القرن العشرين، وتصدرت المشهد الجماهيري العربي، قوى الإسلام السياسي، الذي إتضح دورها فيما عرف ((بالربيع العربي))، وتحالفاتها مع القوى الدولية والإقليمية، في الإطاحة بكثير من النظم العربية، وظهورها على سطح حركة الشارع الجماهيري العربي، من خلال ما توفر لها من ماكينة إعلامية وتنظيمية ومالية.
إلا أن فلسطين بقيت إستثناءاً على هذه القاعدة، رغم ظهور جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، منذ العقد الأخير من القرن العشرين في ثوب ((المقاومة)) في إطار (حركة حماس)، منصبة نفسها حركة ((معارضة)) لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومتجاوزة قواعد العلاقات السياسية، التي حكمت المعارضة الفلسطينية والقيادة الرسمية تاريخياً في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، طارحة مشروعاً مغايراً للمشروع التحرري الذي أرست قواعده م.ت.ف وفصائلها الوطنية، على أساس إبراز البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، وإن فلسطين ((وقف إسلامي))، ومعارضة لجميع أشكال التعاطي السياسي مع دبلوماسية الصراع، ورفضها مبدأ المفاوضات، وتبني خيار المقاومة المسلحة خياراً وحيداً لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وقد إستطاعت من خلال مواقفها هذه أن توفر الذريعة تلو الأخرى للعدو الصهيوني للإفلات من الإستحقاقات المتوجبة عليه بموجب الإتفاقات الموقعة بينه وبين م.ت.ف، وإستطاعت أن تحظى بمساحة جماهيرية بين الجماهير الفلسطينية والعربية تحت شعار المقاومة، وعلى حساب تراجع دور وشعبية قوى اليسار الوطنية والقومية والتقدمية الفلسطينية، مستفيدة أيضاً من فشل الجهود التفاوضية في تحقيق تسوية سياسية وفق الشرعية الدولية والرؤية المعتمدة من م.ت.ف ومن القمم العربية والإسلامية، وعدم الإنحياز ...الخ، لكن وللأسف قد وظفت كل هذا الإنتشار الجماهيري، لمشاركة م.ت.ف في السلطة التي أقامتها بموجب إتفاقات أوسلو المرفوضة، من قبلها لغاية الآن، ذلك في إنتخابات عام 2006م، حيث حصلت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، ورغم ذلك، واصلت التمسك برفض تلك الإتفاقات، والتمسك بخيار المقاومة المسلحة، ظناً منها أنها قادرة على الإمساك بالسلطة والمقاومة في آن واحد معاً، لتصل بعد ثلاثة حروب دامية وإنتصارات مدوية ...!! إلى هبوط سياسي واقعي ومدوي، يتمثل في البحث عن مجرد ترتيبات مع العدو الإسرائيلي وهدنة طويلة، لضمان إستمرار حكمها لقطاع غزة ... الذي سيطرت عليه عبر إنقلاب عسكري دامٍ، سمي ((الحسم)) من قبلها في 14/06/2007م، ورغم ذلك نقول إن فلسطين ستبقى الإستثناء على الصورة التي آل إليها الوضع الجماهيري العربي، من حيث سيطرت قوى الإسلام السياسي عليه، أمام ضعف وإنهيار قوى اليسار الوطني والقومي والديمقراطي العربي.
لقد بقيت حركة "فتح" رغم كل ما أصابها من نكسات، بسب تحملها المسؤولية الوطنية الكاملة عن المرحلة، من إنجازات وإخفاقات، من إيجابيات وسلبيات، وبناء أول سلطة فلسطينية وطنية على الأرض الفلسطينية، استمرت حركة "فتح" صامدة ومتمسكة بالمشروع الوطني، لأن "فتح" حركة وازنة وملهمة للشارع وللجماهير الفلسطينية والعربية ومعبرة عن تطلعات الشعب الفلسطيني، وستظل معقود عليها الأمل لتصحيح المسار النضالي والكفاحي الفلسطيني الذي حاول البعض دفعه للإنحراف، وبالتالي دفع تيارات الإسلام السياسي الفلسطينية، إلى واقعية سياسية تحترم المشروع الوطني الفلسطيني، وتعيد له الإعتبار، بعيداً عن فوضوية الخطاب الإسلاموي، الشعاراتي الأممي، ولذا لا يخفى على المتابع، حجم الهجوم الذي تعرضت له حركة "فتح" من الآلة الإعلامية والسياسية الحليفة للتيار الإسلاموي على مدى ربع قرن مضى، وظفت فيه الأقلام والألسن، والصحف والمجلات، والفضائيات، بإمكانيات كبيرة تفوق إمكانيات دول كبرى، كل ذلك كان يهدف إلى إسقاط "فتح" وبالتالي إسقاط م.ت.ف ومشروعها الوطني الفلسطيني.
وهنا يسجل لحركة "فتح" هذا الصمود الإسطوري، في وجه هذا التحدي من التيار الإسلاموي المدعوم إقليمياً ودولياً، على مدى ربع قرن مضى، وتمسكها وحفاظها على المشروع الوطني الفلسطيني، بل وتسجيل العديد من الإنجازات السياسية والدبلوماسية للقضية الفلسطينية، وبناء الكثير من المؤسسات الوطنية، على طريق إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني وإنتزاع الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
فلسطين هي الإستثناء ...!!: بقلم عبد الرحيم جاموس
26-05-2015
مشاهدة: 764
عبد الرحيم جاموس
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها