الوصول إلى قمة جرزيم التي يبلغ ارتفاعها 886 مترا، وتشرف على مدينة نابلس لم يعد بالأمر الهين، فعليك انتظار الموافقة من طاقم الحراسة الإسرائيلية للحصول على تذكرة للدخول بعد أن تدفع 22 شيكلاً تعود لخزنة سلطة الحدائق الإسرائيلية.
المكان كنعاني الهوية، ولكن العلم الذي يرفرف على قمته إسرائيلي، وطاقم الحراسة يهود أو عرب من أبناء الطائفة الدرزية، والمرشد السياحي للمنطقة لا يتحدث إلا العبرية، والسواح الذين يرتادون المنطقة يهود ومستوطنون وأجانب، ما يجعلك تشعر للحظات وكأنك في عمق إسرائيل!
هذه الاجراءات جاءت عقب ضم الجبل إلى سلطة الطبيعة الإسرائيلية، التي حولته لموقع سياحي وأحاطته بالسياج الشائك من كل الجهات، وقد تم افتتاحه رسميا عام 2012.
وعلى الرغم من أن المكان المستهدف يحظى باهتمام واحترام كبيرين من أبناء الطائفة السامرية الذين يحجون إليه ثلاث مرات سنويا، ولكن ما يدمي الجرح أكثر أن غالبية الفلسطينيين لا سيما أبناء نابلس وحتى المسؤولين منهم والإعلاميين لا يعلمون شيئا عن المنطقة وعن طبيعة الحفريات التي تمت هناك.
الحفريات الأثرية في جرزيم
شهدت منطقة جرزيم العديد من الحفريات الأثرية استمرت لسنوات طويلة، يقول المؤرخ النابلسي عبد الله كلبونة عن جرزيم: "في سنة 1940 قامت دائرة الآثار البريطانية بالحفر بالموقع وتم الكشف عن كنيسة مريم العذراء وعن السور الذي كان يحيط بها، وفي سنة 1992 باشرت دائرة الآثار الإسرائيلية بالتوسع بالحفر فتم الكشف عن بقايا معبد سامري وعليه نقش بالخط السامري، ومجموعة كبيرة من البيوت والحجارة اليونانية والدرج المؤدي للكنيسة".
كنيسة مريم العذراء
يتحدث كلبونة عن بقايا كنيسة تم اكتشافها أثناء الحفريات تعود إلى الفترة البيزنطية، أنشئت بقرار من الإمبراطور البيزنطي ( زينو ) عام 484 م، وقد تعرضت هذه الكنيسة للتدمير أكثر من مرة على أيدي السامريين الذين يعتقدون أن هذا الجبل حكر عليهم ولا يحق للمسيحيين إنشاء كنيستهم عليه، وفي عهد الإمبراطور (جوستنيانوس) في القرن السادس الميلادي أعيد بناء الكنيسة مرة أخرى، وتم تبليط أرضيتها بألواح الرخام التي أزيلت ونقلت إلى مكان مجهول، وفي الناحية الشمالية للكنيسة عُثر على صهريج ضخم لتجميع مياه الأمطار يعود للفترة اليونانية التي سبقت بناء الكنيسة.
إزالة القبور الإسلامية
ويضيف كلبونة: "كما وتم الكشف عن العهود الرومانية، وزجاجيات وفازات ونقود تعود إلى مختلف العهود التي مرت على المنطقة، وأكد كلبونة على أن "الحفريات طالت ساحة المقام الإسلامي "مقام الشيخ غانم" بحيث أدت إلى إزالة وإخفاء معالم القبور الإسلامية، رغم اعتراض مديرية الأوقاف في حينه على ذلك، وبعد الانتهاء من عمليات الحفر الإسرائيلية قبل عامين أي في عام 2012، تم إعلان المنطقة حديقة أثرية تتبع لسلطة الحدائق الإسرائيلية العامة كما هي اليوم".
مقام الشيخ غانم
إنه احد المعالم الإسلامية في أعلى قمة جرزيم، ويشير كلبونة إلى أن هذا المقام ينسب إلى "الشيخ عثمان بن علي الأنصاري " وقد أقيم هذا المقام على احد الأبراج الدفاعية لكنيسة مريم، وبيّن "أن المقام يتكون من طابقين ولا يزال بحالة إنشائية سليمة، إذ يتم الصعود إلى الطابق العلوي من خلال درج داخلي من الغرفة السفلية التي تحتوي على محراب، ومن يصعد على سطح المقام يستطيع مشاهدة المنطقة المحيطة بنابلس من كافة الجهات نظرا لارتفاع المنطقة الشاهق.
ومن الجدير ذكره هنا أن " مراسلة المجلة" لم تتمكن من دخول المقام أثناء زيارتها لمنطقة جرزيم فهو مغلق بأمر من سلطة الحدائق الإسرائيلية .
السامريون ... إسرائيل تغلق باب السماء
يسكن جرزيم اصغر طائفة في العالم وهي الطائفة السامرية التي تعتبر قمة الجبل مكانا دينيا مقدسا لها وقبلتها في الصلاة وتواصلها مع الله منذ الأزل، ووفقا للناطق باسم الطائفة السامرية ومدير المتحف السامري الكاهن حسني السامري فإن منطقة جرزيم هي بوابتهم إلى السماء، ومكان صلتهم مع الله واليها يحجون ثلاث مرات سنويا، أثناء عيد الفصح، وعيد الحصاد، وعيد العرش، وهم يلبسون القنابيز حتى يظهروا سواسية أمام الله، فلا يحق لهم إغلاق باب السماء.
ويتساءل الكاهن حسني: "هذه كريات لوزا، أي هذا الله، لا اعرف لماذا الإسرائيليون حولوه لمنطقة سياحية وماذا يريدون؟"
جرزيم إهداء من ملك الأردن
أشار السامري إلى أن ارض جرزيم "إهداء من ملك الأردن الراحل حسين للطائفة السامرية ولا يحق للإسرائيليين السيطرة عليه، وتحويل المكان الديني إلى مكان سياحي سيقلل من قيمته الدينية وسيغير من وجهة نظر الأجيال القادمة لقدسيته، واليهود يسعون إلى طمس كل معلم يتعلق بالسامريين".
ويستطرد قائلا: "لم ينسقوا معنا في موضوع تحويل المكان المقدس لمكان سياحي، ونحن ضد ذلك وما يهمنا قدسية الجبل وليس الآثار التي تقتل قدسيته، ولا نريد الكسب المادي على حساب القيمة الدينية لقمة الجبل ولا نريد الدخول بالسياسة التي تمس بقدسيته، ويضيف "لتأخذ إسرائيل زاوية أخرى من ارض الجبل غير قمته المقدسة فهي بذلك تمس بديننا، ومن حقنا على السلطة الفلسطينية أن تدافع عن حقنا في هذا المكان فنحن أقلية ويجب احترام حقوقنا".
وقد أبدت الصحفية بدوية السامري من وكالة وفا الفلسطينية امتعاضها من قرار إسرائيل تحويل الموقع لحديقة أثرية قائلة: " رغم أن المكان أصبح أنظف من السابق ولا يمكن لفئة الزعران الوصول له وممارسة الرذائل هناك كما كان في الماضي، إلا انني ضد كل عمليات الحفر التي حدثت على مدار 30 عاماً في الموقع، وضد تحويله لموقع سياحي إسرائيلي، وتحديد أوقات معينة لنا للدخول إلى القمة فنحن نريد أن ندخلها وقتما نشاء أن نمارس شعائرنا الدينية للتواصل مع الله".
إسرائيل تنتهك الاتفاقيات الدولية
عبد الرحيم عواد مدير دائرة تطوير المواقع في وزارة السياحة والآثار يقول: "ما قامت به إسرائيل في منطقة جرزيم مخالفٌ لاتفاقيات جنيف، ويعتبر شكلا آخر من أشكال انتهاك الاتفاقيات والقوانين الدولية، التي تمنع بموجبها سلطات الاحتلال القيام بأي أعمال حفر في المواقع الأثرية التي تحتلها، وقد رفعنا العديد من الشكاوى لمنظمات الحفاظ على التراث ومنظمة اليونسكو بشأن الانتهاك الصارخ على جبل جرزيم، ولكن كالعادة لا يوجد أي خطوات فعلية لمنع وإيقاف هذه الاعتداءات على ارض الواقع، ويضيف "تم ترشيح موقع جرزيم من قبل وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ضمن قائمة مكونة من 20 موقعاً على اللائحة التمهيدية لمواقع التراث الثقافي والطبيعي في العالم وتم رفعها لمنظمة اليونسكو، ولا يحق لأي دولة أو جهة في العالم ترشيح هذه المواقع على لائحة التراث العالمي إلا وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، فترشيح الموقع من قبل إسرائيل مرفوضٌ جملة وتفصيلا".
قرصنة التراث الفلسطيني
ويدين محمود البيراوي مدير دائرة آثار نابلس أسلوب القرصنة الإسرائيلية في مصادرة التراث الثقافي الفلسطيني، لا سيما أن إسرائيل أقدمت على هذه الخطوة بعد قبول مدينة بيت لحم في اليونسكو، معتبرا أن افتتاح الحديقة الأثرية في جرزيم بمثابة قرار لقطع الطريق على الفلسطينيين من تسجيل المنطقة على لائحة التراث العالمي، ويضيف جاءت هذه الخطوة تنفيذا لقرار الحكومة الإسرائيلية عام 2010 بتحويل عدد من مواقع التراث الثقافي الفلسطيني كمواقع للتراث الإسرائيلي".
حمدان طه .. حماية المواقع الأثرية أهم أولوياتنا
وتعقيبا على المشروع الإسرائيلي في قمة جرزيم، يقول حمدان طه وكيل وزارة السياحة والآثار الفلسطينية "أن السلطة الفلسطينية ترفض ما أقدمت عليه إسرائيل، وانه وضع خطير أن توجد حديقة أثرية إسرائيلية في قلب نابلس، وهذه الخطوة هي اعتداء سافر على التراث الفلسطيني وخرقاً فاضحاً للقانون والاتفاقيات الدولية لحماية التراث الثقافي أثناء فترة الاحتلال، مبدياً أسفه أن إسرائيل تستمد شرعيتها من تقسيمات أوسلو فكون هذه المنطقة تقع ضمن المنطقة (سي) لا يوجد للسلطة الفلسطينية فيها أي صلاحيات، مؤكدا على أن حماية المواقع الأثرية الفلسطينية من أهم الأولويات على طاولة المفاوضات".
إن الكيان الإسرائيلي يسيطر وبقوة السلاح على كامل الضفة الغربية بما فيها جبل جرزيم، إلا أن هذا القرار الإسرائيلي بضم جرزيم إلى سلطة الحدائق الإسرائيلية ما هو إلا محاولة أخرى لطمس الوجود الفلسطيني تحت مسميات جديدة، ومهما كان المسمى سيبقى جرزيم كنعاني الهوية وشاهد على عظمة نابلس.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها