ردود الأفعال الشعبية في العالم العربي، علىالعدوان الهمجي الصهيوني الذي تعرضت له غزة؛ كانت مخيّبة للآمال وينبغي أن يندىلها الجبين، في الوجه الحقيقي للأمة بالمعيار التاريخي. وإن لم يندَ لها جبينبقايا أولئك المؤمنين بوحدة الوجدان العربي؛ فإن ما يندى ويتعرق حتى العفونة، هوالتراث الكبير من المطولات البحثية والتنظيرات، التي أجهدت نفسها في البرهنة على«يقظة» هذا الوجدان!

«وين الملايين»؟ استفسار بات دارجاً، منذ أن اختزلت به، مطربةلبنانية جنوبية مغمورة، نشرة أخبار كاملة، أو بياناً حول الموقف الشعبي العربي،حيال العربدة الإسرائيلية في مناسبة سابقة. ومن المفارقات، أن المطربة نفسها، التيأطلقت الصرخة، انسحبت الى بيت الزوجية، لكي تمكث مع بعلها الذي يعمل في جامعةأمريكية في دبي، تاركة الملايين تتدبر رؤوسها. كأنها استبقت، بخلاصها الفردي، مصير«ثورة الفاتح» التي كان شاعرها وملحن أناشيدها، الليبي علي الكيلاني، وهو نفسهصاحب كلمات الصرخة التي غنتها جوليا بطرس. فسياقات أوطاننا، التي يتغالظ فيهاالاستبداد حتى التوحش؛ تمضي في وجهة معاكسة للألحان والأغنيات!

نتساءل من جديد، بأصواتنا المتحشرجة أو الخشنة: وينالملايين؟! لو جاءنا الجواب بأنها اندثرت؛ لقلنا باستفهام مقابل: وكيف ولماذا تظهرهذه الملايين، في مناسبات فرعية، أقل أهمية بكثير، من إحراق مدينة عربية عمرهايزيد عن سبعة عشر قرناً ونحو عُشر القرن، وتقتيل أطفالها بنيران غاشمة وعربيدة؟!ربما تخرج الملايين، احتجاجاً على رفع سعر الدجاج، ونرى التظاهرات الحاشدة، في مدنالأوطان من أقصاها الى أقصاها، لو رُفع السعر، وتلقت الملايين في كل مكان، رسالةواحدة متزامنة، تقول إن هناك خطراً يتهدد علاقتنا بالدواجن اللاحمة!

وين الملايين؟! ربما انشغلت الشعوب عن الجموع، فيعملية إعادة اكتشاف نفسها وتفاصيلها والتمايزات في داخلها، والذهاب في وُجهةانشطارية متناسلة، يصفي فيها الشمال حسابه مع الجنوب أو العكس، والريف مع المدينةأو العكس، والعشيرة مع العشيرة، والطائفة مع الطائفة، واللهجة مع اللهجة، وشرقالسكة مع غربها، والأطهار مع الفاسدين، والأخيرين كلٌ مع فئة أخرى منهم، الى آخرهذه المتوالية اللانهائية، دون أمل في هذا السياق، يتعلق بالوصول الى مقاربةلإعادة صياغة شظايا الشعوب. فالشروخات لا تلتحم، بل إنها تظل ماكثة، يصعب معها وضعالناظم الذي يتساكن بموجبه المتفرقون مع أنفسهم على أرض واحدة ؟!

في بعض الأقطار، بدت الحكومات أنبل نسبياً منشعوبها على هذا الصعيد، أو على الأقل، أفضل تمثيلاً لتاريخ الدولة الوطنيةالمستقلة وحيثيات نضالات الاستقلال. فقد أُطيح بالناظم القومي الجامع، بجريرةالفساد والاستبداد في الأربعين سنة الماضية، وبذريعة الارتقاء الى ما هو رساليورباني. لكن هذا الأخير بخلاف الأول المُطاح به أكثر قابلية للانشطار والتشظي،وأكثر غواية للناس لجرّها الى التباغض بين المدارس والمواقف والى أطر اجتهاد، لايحترم واحدها دين الآخر ولا تقواه، ولا يترفق به!

مفعمون بالألم، لحال هذه الأمة التائهة، التي كلماأنتجت ربيعاً، فإنها سرعان ما تدخل به الى خريف طويل، تغيب فيه النُضرةُ وتَبهُتالعدالة. ربما يكون أقوانا تمثلاً للعنفوان، أعمقنا توغلاً في الخريف. فقد بثت«الجزيرة مباشر» بعد ظهر أمس، تظاهرة بائسة على الهواء، من «ساحة الثورة» التيكانت تسمى «الساحة الخضراء» في طرابلس، دعماً للشعب الفلسطيني في غزة. ليت القناةلم تبث التظاهرة التي لم يصل عدد المشاركين فيها الى سبعين شخصاً. فقد حمل بعضالحاضرين صوراً مكبرة لثلاثة من الشهداء القادة من حركة «حماس» مع عبارة تقول:«قادتنا شهداء». غاب أبو عمار والشقاقي وأبو علي مصطفى وآخرون كُثر من القادةالشهداء في الثورة المعاصرة، وخطب في الأنفار شاب قدّم نفسه كممثل لـ «حماس» فيليبيا. لم يكن ذلك هو المحزن. فالعدد هو الذي كان محزناً، ويمثل إعلاناً بليغاًلغياب الجموع. أما اختزال القادة الشهداء، فيمن رُفعت صورهم في لافتة كبيرة واحدة؛فمعناه أن التاريخ، عند البعض الواهم، بدأ وسينتهي، بهذا الخريف الذي نحن فيه.شاهدنا ذلك البث، قبل أن يدلّنا الآخرون، على ورقة خريفية صفراء، رمتها الريحالجامحة، حملت إلينا نص الاتفاق الذي تم التوصل اليه لوقف إطلاق النار، لنظفر من«الغنيمة» بالإياب مع الأحزان والخسارة على كل صعيد!