قبل أيام قليلة كنت أتابع الأحداث الكارثية وتداعياتها على شاشة قناة الجزيرة وكانت تستضيف أحد المثقفين الفلسطينيين من عمان، وهو من عائلة فلسطينية عريقة، ولا أريد أن اذكر اسمه حتى لا أسيء الى اسم هذه العائلة, ذلك المثقف قال بالحرف الواحد : «مع احترامي لمئات الشهداء من الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة، فانهم لا يحسبون في حساب الخسائر، بل ذهاب الاسرائيليين الى الملاجئ هو الذي يحسب خسائر فادحة».
أحببت أن أبدأ بهذا النموذج الشاذ والمشين لأسلط ضوءاً على مدى الانحدار الأخلاقي والسياسي والوطني والقومي والديني الذي وصلت اليه بعض النخب في بلادنا فلسطين وفي أرجاء العالم العربي والاسلامي، وهذا الانحدار الشاذ والمشين هو الذي أعطى اسرائيل الجرأة في أن تفعل بنا ما تريد، ما دامت بعض هذه النخب قد وصل بها الانحدار الى رسم صورتنا بهذا الشكل البشع، بحيث أصبح هؤلاء- وهم كثيرون- يعبدون الوهم ويكفرون بالحقائق، ويضعون في يد أعدائهم الخناجر لكي يذبحونا وهم يلعنونهم بجعجة فارغة.
منذ أسبوع تقريباً وصل الوفد الفلسطيني الى القاهرة، وصل متأخراً جداً، بعد أن ثبت أن الآخرين لا يصلحون لأداء الدور بديلاً عن مصر، ولكن الوفد وصل اخيراً، وفد فلسطيني موحد، شكله رئيس الشرعية الفلسطينية الرئيس أبو مازن، ويرأسه عزام الأحمد الذي يتولى ملف المصالحة الفلسطينية منذ سنوات, وهذه مفارق خاصة وانتصار كبير لأن أحد أسباب هذه الحرب الرئيسية هو رفض المصالحة والرغبة في تدميرها نهائياً، وهذا أكبر دليل لا يستطيع أن ينكره حتى الشياطين بأن الانقسام هو على مستوى الفكرة والتخطيط والتنفيذ الكلي صناعة اسرائيلية مئة في المئة، وقد بدأ بتحطيم حكومة الوحدة الوطنية في أوائل عام 2007، وفقد المئات من الفلسطينيين حياتهم لأنهم رفضوا هذا الانقسام، وتكسرت أضلاع وسيقان المئات وأنا واحد منهم لأنهم رفضوا ولو بالكلام الطيب فقط هذا الانقسام، ونحمد الله كثيراً أنه يساعدنا جميعاً لاسقاط هذا الانقسام، ويجب أن يكون اسقاط الانقسام قراراً نهائياً وليس تربصاً مؤقتاً، وذهبنا الى القاهرة في وفد موحد يشارك فيه الجميع، وهذا هو انتصارنا الكبير الثمين الذي حققناه في هذه الحرب الطاحنة وفاء لدماء أطفالنا ورجالنا ونسائنا، وتعويضاً عن حطام بيوتنا التي تحتاج الى المليارات والسنوات لاعادة بنائها اذا كانت كل الظروف متوفرة وميسرة.
السؤال الآن: هل يوجد فلسطيني حتى ولو كان محدود العقل يتوقع أن يأتي الاسرائيليون بسرعة الى القاهرة، وبنوايا طيبة، وبابتسامات على وجوههم لكي يقولوا لنا «شبيك لبيك، خادمك المطيع بين يديك»؟
والجواب البسيط والبديهي لا وألف لا..لأن الاسرائيليين لن يكافئونا على استعادة وحدتنا التي استعدناها من بين أنياب الانقسام، فحساباتهم معاكسة تماماً لحساباتنا ويجب أن نتذكر أن أصعب طلباتنا حالياً كانت متوفرة في أيدينا وهي المطار الذي افتتحه الرئيس الاميركي بيل كلنتون، وزارنا من خلاله عشرات الرؤساء والقادة في العالم، وانتقلت منه واليه طائرات تابعة لشركة الطيران الفلسطينية وشركات طيران عربية وفلسطينية ودولية من جميع أنحاء العالم، ولكنه تحطم على يد اسرائيل وبغطاء من بعض الواهمين وأوهامهم التي لم يعتذروا عنها، ومازالوا يكابرون، كما كان لنا في غزة ميناء للصيادين، رست عليه عشرات البواخر والسفن صغيرة الحمولة، ووقعنا اتفاقات دولية لبناء ميناء دولي، ولكن ذلك تحول الى حلم ضائع بسبب المنهج نفسه، وحوصر صيادونا من اثنى عشر ميلاً بحرياً الى ستة أميال، ثم تقلصت الأميال الستة الى ثلاثة، ثم أصبحت الثلاثة أميال تتحرك فيها الزوارق البحرية الاسرائيلية التي تقصفنا وتقتلنا وتدمر بيوتنا على رؤوسنا!
وذكر ان نفعت الذكرى، ليس من أجل فتح الجراح واثارة المواجع، وانما من أجل التبصر واعادة جدولة الأولويات، واتخاذ القرار الخارق الكبير, ما الذي لا يجب أن نخسره مهما كلف الأمر، وما الذي لا يجب أن نضحي به على مذبح اسرائيل أو غير اسرائيل من اللاعبين الاقليميين والدوليين، مذكرين أنفسنا في كل لحظة أن هذا الجنون الاسرائيلي يرتكز الى ثلاثة أبعاد موضوعية، أولها أن اسرائيل أخذت شهادة ميلادها من مجزرة دير ياسين، فلا شيء مفاجئا في سلوكها الاجرامي الأرهابي وسلوكها الساقط أخلاقياً، والثاني أن الجدار العربي والاسلامي الذي نستند اليه مازال في حالة ارتباك وغياب وفوضى، والثالث أن النظام الدولي السائد في العالم الآن، هو نظام دولي منحاز الى حد دول كبرى وهي جزء رئيسي من هذا النظام وتشكو منه مر الشكوى مثل الاتحاد الروسي والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والنظام الاقليمي العربي كله.
هذا يدفعنا في كل دقيقة الى اعادة فحص أولوياتنا واعادة ترتيبها بما يجعلنا نكسب شيئاً ولا نخسر كل شيء، حتى لا نكرر مأساة ذلك الأعرابي في الصحراء الذي أخذ منه أعداؤه كل قطيع الإبل، فخرجت من بين شفتيه الحكمة الخالدة «أوسعته شتماً وفاز بالإبل».
أعرف أن هذا الكلام من الوزن الثقيل الذي لا يحبه المنافقون والدجالون والضاربون بالطبول والدفوف ومطلقو الأناشيد، وهم الظاهرة الأكبر في حياتنا العربية في هذه المرحلة، وقد أصبح كل من يقول الحقيقة عدواً وكل من يصدق الناس كافراً!!! ولكن كيف ندير الجهاد الأكبر، كان الجهاد الأصغر هو الدماء وقد بذلناها سخية ولا تزال، وأكبر من ذلك، فان المقاومة الفلسطينية الباسلة من كتائب عز الدين القسام، وكتائب سرايا القدس، وغيرها، وكتائب شهداء الأقصى الذين لهم أكثر من ست مجموعات تشارك بكفاءة فوق العادة في هذه المعركة وهي مجموعات الشهيد عبد القادر الحسيني، وأيمن جودة، والعامودي، ونبيل مسعود، وأحمد أبو الريش، وجيش العاصفة، لكنها شاركت بأكثر مما تستطيع وأكثر من المتوقع، فقد قاتلت وهي ملاحقة، وهي تحت الاقامة الجبرية، وهي تحت الحظر والمنع، وهي تحت سيف الاتهام، ولكن الدم الفلسطيني يجب ما قبله وما بعده، وهل كان أحد من الكبار والصغار وتابعيهم وتابعي تابعيهم يتوقعون أن يرسم هذا الشعب العظيم النبيل، شعب الكارثة والبطولة، الشعب الفلسطيني، هذه اللوحة الخارقة من الوحدة، وحدة الشعب والقضية والأداة النضالية، والله انها قيامة، فحافظوا على قيامتكم أيها الفلسطينيون.
أولوياتنا المقدسة هي الوحدة، واستمرارية هذه الوحدة، وصمودها في زجه كل الرياح العاتية التي مازالت تنطلق وسوف تنطلق أكثر من كهوف الوقيعة، وهذه الوحدة لكي تستمر وتتصاعد وتقوى فانها يجب أن يكون لها سقف منيع من الشرعية، كم دفعنا من دماء غالية حتى تكون لنا منظمة التحرير ممثلنا الشرعي والوحيد، فلنجعل المنظمة أقوى ما تكون، شرعيتنا هي غطاؤنا وسترنا، وهي الجبل الذي نأوي اليه من الطوفان، وشرعيتنا هي أرحم بنا من كل حليف ثابت أو مؤقت، هل رأيتم الشرعية تضحي يوماً واحداً بأي فصيل فلسطيني؟ فحافظوا على وحدتكم العالية تحت سقف شرعيتكم الفلسطينية، ولا تبيعوا فراءكم الثمين لتتخفى تحته الذئاب.
بدأت المعركة الأصعب/ بقلم يحيى رباح
11-08-2014
مشاهدة: 890
يحيى رباح
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها