عدنا الى نص مقابلة الرئيس أبو مازن التي جرت باللغةالانجليزية، وبدا أن سياق المقابلة، ليس فيه اسقاط لحق العودة. ولكن عندما “يحتفل”المناؤون، بما يصرّون على أنه اسقاط لهذا الحق، فكأنهم يجعلون من التباس في التعبير،قراراً وحكماً في قضية، لا تحسمها فقرة مجتزأة من حديث تلفزيوني. فالرجل له موقفه المتمسكبقواعد العملية السلمية، التي تنص على أن قضيّة اللاجئين، ستُحسم في مباحثات الوضعالنهائي. ثم ان الفكرة الطاغية على الحديث، كانت تتعلق بمخاطبة الجمهور الاسرائيلي،الذي يخدعه التيار العنصري بالتركيز على الخطر الوجودي. وعلى الأرجح، لا يعرف الصحفيالاسرائيلي الذي أجرى المقابلة ما يعلمه الرئيس محمود عباس، وهو أن حق اللاجئين الفلسطينيينفي العودة، بات حقاً فردياً لكل من افتقد منزله أو حقله في فلسطين. فعندما صدر قرار194 في الحادي عشر من كانون الثاني (ديسمبر) 1948 رفضه شعبنا ورفضته الأقطار العربيةوالاسلامية، وكان الرفض في حينه، لأن الاشارة الى هذا الحق الجوهري غير القابل للتصرف؛ورد في فقرة برقم 11 من قرار يتطرق الى مسائل فرعية شتى، ولأنه يعترف بحق “اللاجئينالراغبين في العودة الى ديارهم، والعيش بسلام مع جيرانهم” كأفراد وأصحاب عقارات وممتلكات،والتعويض لمن لا يرغبون في العودة أو أصيبوا، وأن يكون التعويض من قبل من سماهم القرار“السلطات المسؤولة”. وكان مقصد القرار من العيش “بسلام” مع “الجيران” هو العيش مع اليهودالذين استوطنوا في البلاد، والمقصود بـ “السلطات المسؤولة” التي تعوّض، هو اسرائيل.فلم يعترف القرار، بحق شعب فلسطين، بالعودة الجماعية الى بلاده لنيل الاستقلال السياسيفيها، شأنه في ذلك شأن كل شعوب المستعمرات. غير أن الأمور التي تردت، بمفاعيل مساندةالغرب الاستعماري للمشروع الصهيوني؛ جعلت القرار بعد عقود من صدوره، سقفاً للمطالباتالفلسطينية والعربية بحق العودة، ولم يعد هناك أية امكانية للتراجع عن قرار الحد الأدنى.وكان تعليل قبولنا المتأخر بـ 194، هو نفسه تعليل رفض الصهيونية له، وقوامه أن نصبحأغلبية، وأن نغيّر سلمياً طابع الدولة التي تأسست، من خلال مخرجات الديموقراطية التيتزعمها هذه الدولة لنفسها!

وعندما يكون الحق فردياً، يصبح الأمر متعلقاً بالملْكيةالشخصية، وهذه لا تملك أي سلطة أو حكومة أو دولة، مهما بلغت من سمو السيادة، أن تتنازلعنها. أي عندما يمتلك فلسطيني، حتى في غير بلاده وليكن في بريطانيا مثلاً عقاراً أوحقلاً؛ فان الدولة لا تملك حق منح ملكية هذا الشخص، لشخص آخر فردياً كان أم اعتبارياً.وهذه هي نقطة القلق الدائمة عند اسرائيل، مهما امتلكت من أسباب القوة!

** *

لقاء الرئيس محمود عباس مع القناة الاسرائيلية، كانباللغة الانجليزية، وتناول نقاطاً لا يلائمها الاكتفاء بمجرد ايصال المعنى بأية صيغةأو بأية مفردات. وربما كان الأنسب والأكثر تحرياً للدقة، أن يكون الحوار مع القناةالاسرائيلية الثانية، باللغة العربية، لأن مثل هذه اللقاءات، تستوجب الدقة اللغوية،الكفيلة بتعيين الفارق بين الحق والامكانية. وربما يكون مقتضى مخاطبة الرأي العام الاسرائيلي،هو الذي جعل الرئيس محمود عباس، يقدم توصيفاً لعلاقته الشخصية بمسقط رأسه. وهذه هيحدود ما في مقدوره أن يطرحه ويذهب اليه، في اشارة معاكسة لمنطق الفزع الذي تحرص الأوساطالصهيونية على تخليقه وابقائه، من فكرة حق العودة. وان جئنا للواقع، فان اتفاق أوسلولاعلان المبادئ، لا يقرر ايجاباً، أن حق العودة مكفول. فهذا الحق، في أفضل القراءات،ليس الا موضوعاً مطروحاً للتفاوض. ولعل هذا هو الذي جعل كثيرين، ومن بينهم كاتب هذهالسطور، يعارض أوسلو بشدة، قبل أن تنهار وتصبح بالنسبة للبعض، عملية قتيلة مأسوف علىموتها.

** *

أبو مازن كان مُحقاً عندما قال في تعقيبه على الزوبعةالتي أثيرت، ان الهجوم عليه كان قبل المقابلة وله سياقه العام، وقبل معرفة ما جاء فيهابالضبط في اطار ردود الأفعال على حديثه للقناة الاسرائيلية الثانية. فقد هجم كل الذينيهجمون في كل يوم، دون أن يجمعهم قاسم مشترك وظاهر، الا مناوءة الرجل. وتغالظت المزاودات،وكأن الرئيس محمود عباس، باع حق العودة، وهم الذين يشترونه بمناقبهم الجليلة ونضالاتهمالمريرة. لقد سمع العالم، حديث الرئيس عباس عن ألمه وحرمانه ومظلمته كلاجئ، في خطابهمن على منبر الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2011. وفي أحاديثه الكثيرة، لا تغيب هذهالمظلمة عن لغته. لكنه يعمل في السياسة ويتوخى الممكن من الحق الفلسطيني، الذي باتمن المستحيل التحصل على الأقصى منه، في ظل الوضع العربي والدولي الراهن. ولا ننكر أنمطابقة السياسة بالمطلقات، في العمل الوطني الفلسطيني، تضع أهل السياسة، في الزواياالحرجة، لأن طروحاتهم تبدو مجافية للكثير من مدركات القضية الفلسطينية. وكل من يتحدثعن هدف الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في العام 1967 يوافق ضمناً على واقعيخالف المدركات وحقائق الحكاية. ان هذا هو الوضع، لكن المنطق يقول أن لا نكف عن العملالسياسي، سعياً الى الحق الممكن، لكي نحادث أنفسنا في الأمنيات القصوى، دون أن يسمعناأحد. ونعرف أن المحتلين العنصريين، لا يكتفون منا بالسياسة ولغتها. هم يريدوننا أننجلو عن مساكننا في جنين ورام الله والخليل وسواها. بل ان منهم، من ينتظرون منا اشاراتتشطب حقنا في الحياة في المنطقة العربية برمتها، وربما يوافقون على مضض، أن نستوطنفي الربع الخالي من الجزيرة العربية. فهؤلاء لن يرضيهم شيء، ولا علاج لهم الا تذكيرهمببشاعتهم وبمآلاتهم في النهاية، مع التمسك بحق العودة لكل أسرة فلسطينية. وهؤلاء، علىالرغم من صفاقتهم وعنادهم للحقائق، وعلى الرغم من قوتهم العسكرية، لا يضاهون بمعاييرالتاريخ، سلطة أو قوة صغيرة، ظهرت وتمكنت في العصر المملوكي. هم مندحرون حتماً بمفاعيلأطماعهم ونكرانهم لسنن الحياة ووقائع التاريخ. نحن أمة عليلة لكنها ليست ميتة. العليليشفى والأمم لا تموت. لقد تمسك أبو مازن بثوابت الزعيم الوطني الراحل ياسر عرفات، بصيغتهاالمتعلقة بعملية التسوية. وظلت مسألة الحق قائمة، يزيدها قياماً كون الحق ملكا للناسواحداً واحداً، ان لم تتكفل التسوية بسداده كله، يتكفل التحكيم واستمرار المطالبة بالحقوق،مثلما يتكفل التاريخ، وسيرورات الأمم. ان هذا هو مفهوم حق العودة في ضمائرنا جميعاً،وفي هذا السياق، كان أبو مازن حريصاً على أن يُوضح لكل من كانوا “يحتفلون” بلغة الاستكار،بمناسبة ما يظنونه اسقاطاً لحق يريدون اسقاطه فعلاً بمنطق مواقفهم وممارساتهم !