ولكن هناك أحاديث ورؤى متباينة تدور حول المحكمة الجنائية الدولية، فمن المعروف أن المبادئ الأساسية للقانون الدولي تشكل أساساً من جملة الإتفاقيات الدولية، مثل: إتفاقية فيينا للمعاهدات، واتفاقية فيينا للإمتيازات والحصانات والإمتيازات الدولية، وما جاء مؤخراً في قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس عمر البشير يعتبر مجافياً، ومعارضاً، ومقوضاً للمبادئ التي أقرها القانون الدولي كاحترام سيادة الدول، وحصانة الرؤساء التي أكدها ميثاق الأمم المتحدة في كل موداه وأبوابه. والمحكمة الجنائية كيان حديث الولادة أنشئت في العام 2002، وهي ليست من منظومة الأمم المتحدة الأساسية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة والتي تتمثل في : (مجلس الأمن- الجمعية العامة- السكرتارية- المجلس الاقتصادي والاجتماعي- محكمة العدل الدولية)، وبالتالي فإن قرارات المحكمة الجنائية غير ملزمة إلا لمن انتمى إليها وصادق على ميثاق تأسيسها، وبالطبع السودان ليس مصادقاً على ميثاق روما الذي أسس المحكمة الجنائية، فأية محاولة لفرض عقوبات، أو جزاءات على السودان بواسطتها قانونياً "معيبة" ولا سند لها.
إن بعض الدول العظمى غيرت أساليب وأدوات استغلال دول العالم الثالث، إذ كانت في الماضي تنزع لاستعمارها بواسطة الاحتلال العسكري التقليدي المباشر لاستغلال ونهب مواردها، لكن أخيراً ابتكرت تلك الدول أساليب جديدة، منها على سبيل المثال المحكمة الجنائية الدولية التي أصبحت واحدة من أدوات الاستعمار الحديث، ولذلك يجب أن تنتبه دول العالم الثالث لهذا الأمر، وأن تقف أمام هذه المحاولات، التي تجرب الآن على السودان، وألا يسمحوا بها، وإلا ستكون هناك سابقة، ولا ندري من سيقع عليه الدور من قادة العالم الثالث.
وفي هذا الصدد لابد من الإشارة الى قيام مجلس الأمن الذي تهيمن عليه أمريكا بشكل مباشر في سنة 2006 بتوسيع دور المحكمة الجنائية الدولية, فأضيف إلى مهامها الحق بإصدار الأحكام على رؤساء الدول، وذلك لترويض من يشاؤون من الحكام في العالم، وجعل مجلس الأمن من صلاحياته العجيبة أن يوقف قرار المحكمة الجنائية الدولية إذا شاء لمدة سنة قابلة للتجديد وبدون حد أقصى!!
يعني إذا أصدرت المحكمة الجنائية حكماً فمن حق أمريكا إذا شاءت أن توقف هذا الحكم أو تنفذه حسب الرغبة وبالقانون!!
كذلك اصبحت المحكمة سيفاً بيد أمريكا تسلطه على رقاب من تشاء من الحكام الخارجين عن السيطرة. مثلاً: الحكم الآن صدر باعتقال البشير، ويمكن لأمريكا أن تعفو وتصفح، ولكن ما هو الثمن؟!
لقد شاهدنا رام إيمانويل، وهو يهودي بل إسرائيلي الجنسية، ويعمل كمدير موظفي البيت الأبيض، وهو يتعاون مع اللوبي الصهيوني الأمريكي في حملة منسقة على عمر البشير تحت دعوى إنقاذ أهل دارفور! بل رأيناه يقود حملة لجمع التبرعات من الشعب الأمريكي ومن أطفال المدارس لأطفال دارفور، وذلك حتى يكسب الرأي العام الأمريكي للضغط على الساسة من أجل الاهتمام بقضية السودان!! ويريد رام ايمانويل الصهيوني أن يقنعنا أن أطفال السودان في حكم البشير يعانون أكثر من أطفال غزة تحت قصف باراك وليفني وغيرهما من القادة الإسرائيليين.
إنهم يريدون أن يقنعوا العالم أن قلوب أعضاء المحكمة الجنائية ومجلس الأمن، وكذلك قلوب الساسة الأمريكان والأوروبيين تنفطر من أجل المدنيين في إقليم دارفور! ويريدون أن يقنعوا العالم أيضا أن عمر البشير أكثر عدوانية وأشد شراسة من قادة الإحتلال الاسرائيلي، يحسبون أن العالم لا يطالع أخبار فلسطين، ويحسبونه لا يطالع أخبار العراق وأفغانستان.
من الواضح أن قرار المحكمة هذا حول توقيف الرئيس عمر البشير هو قرار مسيس، الهدف منه ضعضعة الأوضاع في السودان، وممارسة الضغوط على الحكومة في الخرطوم، لتقديم تنازلات على حساب سيادة ومصلحة بلدها، وهو قرار وصفه الكثيرون بأنه لا يهدف الى تطبيق العدالة في العالم، وهذا ما جاء على لسان رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ميغيل ديسكوتو عندما قال: "لنحصل على السلام الذي نتطلع إليه فمن الضروري أن نبدأ باتهام الدول القوية لا الدول الصغيرة. كل فرد يعلم عمن أتحدث أكبر الأعمال الوحشية اليوم هي ما يرتكب في العراق..."
لاشك في أن هذا القرار تعسفي وعدواني، يمهد لضرب وحدة السودان وتقسيمه، ويعكس أبشع صور الإزدواجية في التعامل مع الدول، لماذا لم تصدر هذه المحكمة قرارات بتوقيف من ارتكبوا جرائم في أماكن أخرى، وخاصة في الحرب الأخيرة على قطاع غزة؟! بالرغم من أن أمام هذه المحكمة 142 طلباً للنظر في الانتهاكات الاميركية في العراق وأفغانستان والاسرائيلية في فلسطين ولبنان لم ينظر في أحدها حتى الآن.
وفي هذا الصدد تساءل أستاذ القانون الدولي ابراهيم دراجي " كيف طبق القانون الدولي لإنشاء محكمة للتحقيق في حادثة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري بينما رفضت مطالب عربية أخرى؟"، معتبراً أن القوة ولغة المصالح هي التي تسير القانون الدولي أو تصيبه بالشلل.
إن اسرائيل تفرض حصاراً جائراً على أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة، والحصار في القانون الدولي محرم، واتفاقيات جنيف واضحة بهذا الشأن، حيث تؤكد بأنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال تجويع شعب أو مدنيين وتوظيفها في إطار حرب أو صراع، حيث ورد في المادة الأولى من العهدين الدوليين المعنيين بالحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية "لا يحق لأي جهة كانت منع شعب من استغلال مصداره وثرواته بشكل محترم".
إن الأمم المتحدة وقراراتها أصبحت مسيسة بسبب هيمنة القطب الواحد، وهذا التسييس جعل من قرارات الأمم المتحدة خاضعة لمعايير مختلفة، لذلك فإن ما يتعلق بالقضايا العربية من قرارات وعلى رأسها القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره لا تنفذ، بينما يتم تنفيذ قرارات هامشية بحق غير الاسرائيليين والأمريكيين عندما يشتبه في أنهم تجاوزا القوانين الدولية، هذه المعايير القائمة على الإزدواجية, والمطلوب تغييرها عبر النضال المتواصل وتضافر الجهود من قبل القوى الحية في المجتمعات العربية لايصال صوتها الى الخارج، لأن في الخارج أيضاً هناك قوى حية تؤيد الحق العربي والشرعية الدولية.
هـبه الغــول
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها