نأت بعيداً إلى زاوية ليس فيها أسئلة صعبة واجتهادات وأخوة أعداء. هناك لا يوجد مكفِّرون ولا مخوِّنون أو مشيطنون. ليس هناك أمراء ولا خلفاء وحتى حاكمون بأمرهم.
لا تستطيع إلاّ الإنحناء. وحيث وطأت تلك الأرض يسكنك انتماء لم تر مثله في السنوات العجاف الأخيرة.
بلعين. إسمٌ غريب لم يُجاره إيقاع سوى نعلين. قرية أدمنت الغرابة, فَراقَ لها الاستمرار بلملمة شتات "الحياة والعدالة".
هذه القرية الصغيرة- 1800 نسمة – الواقعة وسط الضفة, إلى الغرب من مدينة رام الله والتي تبعد عنها مسافة 12 كيلومتراً, تتاخم حاجز ومستوطنة "موديعين عيليت", اعتادت تنظيم مسيرات احتجاجية أسبوعية ضد الجدار العازل. كبيرة الشعارات التي ترفعها بلعين"نحو فلسطين نظيفة من المستعمرات والجدار وطرق التمييز العنصري والحواجز والطرق المغلقة... من أجل فلسطين وحدة جغرافية واحدة".
أي أن شعارات بلعين تساوي أهداف النضال الوطني لشعب فلسطين, أو هي قررت ومنذ العام 2005 أن تكون أمثولة في التصويب على سبب المعاناة الفلسطينية ومصدرها. لذلك تشدد القرية الصغيرة على أهمية دور المجتمع المدني والنضال السلمي الذي يستقطب دعاة العدل والحرية من مناضلي العالم, خاصة الأوروبيين, حتى أن مجموعات يسارية إسرائيلية تشارك أهالي بلعين مسيراتهم واعتصاماتهم الأسبوعية. الدليل على صلابة بلعين وعلى كونها نموذجاً نضالياً متقدماً, هو إصابة أكثر من 500 شخص من سكانها بالرصاص المطاطي. يضاف إليهم إصابة بعض الأوروبيين والإسرائيليين, وفوق ذلك استضافة القرية للمؤتمر الشعبي للمقاومة السلمية.
محكمة العدل الدولية أقرت أن جدار الفصل العنصري الذي بنته سلطات الاحتلال على الأرض الفلسطينية انتهاك للقانون الدولي. عارض القرار قاض واحد, وهو أميركي الجنسية, فيما رفض قضاة المحكمة الادعاء الإسرائيلي القائل بأن "الجدار كان ضرورياً لاعتبارات أمنية" رأت المحكمة أن الجدار انتهاك للقانون الدولي ولحقوق الإنسان, فطالبت بتفكيكه ودفع تعويضات للمتضررين بسببه.
منذ ك2/ 2005, بدأت التظاهرات والأعمال الاحتجاجية في بلعين ضد الجدار أولاً, ثم تطور جدول أعمال النشاطات التي باتت تنفذ أسبوعياً من خلال تطور النظرة إلى الأبعاد الحقيقية لكل ما يقوم به الاحتلال فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
والرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر بعث برسالة تضامن مع بلعين, فيما تقاسمت القرية المتضامنين الأجانب والإسرائيليين حصاداً وفيراً من الرصاص المطاطي والحي الذي أطلقه جنود الاحتلال الإسرائيلي جوناثان بولاك أصيب بنزيف داخلي جراء إصابته بقنبلة غازية أصابت رأسه في نيسان 2005, وفي 11 آب 2006، تعرض المحامي الإسرائيلي ليمور غولدشتاين لإصابات في الرأس مرتين. وفي نيسان 2007 أصيبت الايرلندية الحائزة على جائزة نوبل للسلام ميريد كوريغان في رجلها, كذلك أصيب نائب رئيس البرلمان الأوروبي لويزا مركتيني والقاضي الإيطالي خوليو توسكانو بجراح خلال مظاهرات احتجاج في قرية بلعين, فيما شاهد العالم الصور التي أظهرت ضابطاً اسرائيلياً يطلق رصاصة مطاطية على قدم سلام كنعان- 17 عاماً- وهو مقيد ومعصوب العينين خلال مسيرة في قرية نعلين القريبة من بلعين.
حين تعسكرت الانتفاضة ألغي دور الجماهير من الإسهام في الواجب الوطني الفلسطيني, فصارت مهمتها الوحيدة دفع الفاتورة اليومية من الاعتداءات الإسرائيلية والخضوع لمنطق المعاناة الذي يفرضهُ الاحتلال من جهة والتناقضات الداخلية من جهة أخرى, فيما الانتفاضة العظيمة, التي أشعل شرارتها تدنيس شارون للمسجد الأقصى, انطفأت على خسارة مادية وجسديَّة لا تحصى.
الآن تقف خيارات النضال الوطني الفلسطيني كلها على مفترق طرق, وليس هناك ردّ حاسم على فاعلية تلك الخيارات. ناهيك عن أن دعاة المقاومة المسلحة من حركة حماس لا يحترمون سياسة التفاوض, فيما مؤيدو الأخيرة يرون تكاملاً بين التفاوض والكفاح المسلح المؤطر لصالح خطة وطنية نظيفة من اختراق الأجندات الإقليمية. بين هذين الموقفين تنتصب بلعين كمنارة تضيءُ ميناء التائهين بين اللجج العاتية. تقف هذه القرية الصغيرة لتقول للجميع بأن النضال الوطني الفلسطيني هو فعل استمرار وتراكم, وبأن دور المجتمع ليس بأقل فاعلية من دور البندقية, بل يتعدى دور الحاضنة السياسية والمعنوية إلى كونه طرفاً أصيلاً في معادلة المقاومة ضد الاحتلال والعنصرية. كذلك يضيف هذا الدور صفة جديدة للمقاومة تُحيِّد بسلميتها موازين القوى التقليدية, بما هي خيار لا عنفي. هذه المقاومة تبنى على جبهتين. واحدة داخلية تسهم في ترميم الداخل ودفعه نحو الأهداف الوطنية بعد الذي اعتراها من تآكل وانقسام. وثانية تسهم في فضح العدو وأساليبه وأهدافه الاستعمارية, وتضعه مباشرة أمام مشرط الرأي العام- خاصة الدولي منه. هذا المشهد يشترط على البندقية أن تبقى بعيدة عن بلعين وعن كل النماذج التي تشبه بلعين, فيما المطلوب تعميم نموذج هذه القرية واعتبارها كرة ثلج الدور الجماهيري الواجب الاستحضار, رغم الكثير من العوائق والمطبات الناتجة عن الظروف الصعبة التي يعيشها أهل فلسطين اليوم في الضفة والقطاع على السواء.
بلعين تردُّ على بعض الأسئلة التي بدت صعبة, بل مستحيلة أحياناً, حيث حركة الشعب لا يجوز أن تكون رهينة أسلوب أو إثنين, وضع أحدهما في مرتبة القداسة, فيما وقعت على الآخر لعنة سوداء.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها