بعد قرابة سنة على اتفاق المصالحة الذي تم التوقيع عليهفي القاهرة في الرابع من مايو أيار العام الماضي, الذي أعقبته لقاءات وحوارات هامةجدا, تشكلت بموجبها لجان متعددة من بينها اللجنة القيادية لمنظمة التحرير التي يشاركفيها الجميع بدون استثناء، وبعد شهرين ونصف الشهر على اتفاق الدوحة الذي تم التوقيععليه في السادس من شباط هذه السنة, والذي اتفق من خلاله على حل عقدة تشكيل حكومة الوحدةالوطنية, بأن يتولى رئاستها الاخ الرئيس أبو مازن نفسه، وبعد تصاعد الآمال إلى ذروتهافي انجاز المصالحة, والنجاة من نفق الانقسام الأسود، يلاحقنا السؤال الكبير, ويدق أبوابعقولنا , ويقرع أجراس ضمائرنا: أين تاهت المصالحة؟

و هذا السؤال يطرح في العلن, ويطرح في الغرف المغلقة,ويطرح حتى في الحديث الصامت مع النفس, ويطرح في اليل والنهار , في تحليل القضايا الاستراتيجية,وفي تعقيد تفاصيل حياتنا اليومية, ويطرح ايضا في عندما تضيء فينا أيام الذاكرة الوطنية,مثل ذكرى استشهاد خليل الوزير أبو جهاد , أو يوم الأسير الفلسطيني, أو الإضراب الشاملعن الطعام في السجون الإسرائيلية, أو يوم الطفل الفلسطيني, وأينما ولينا وجوهنا ينتصبأمامنا السؤال, وأين ما هربنا إلى الافتعالات والصغائر, يلاحقنا السؤال: أين تاهت المصالحة؟

والحقيقة أن السؤال يطرح في جميع الحالات, ويطرح بطريقةتوحي بأن المصالحة الوطنية الفلسطينية أصبحت الآن تمثل الحلم المخذول , والأمل المطعون, والرجاء المقتول !!! خاصة وأن كل إنسان فلسطيني سواء كان سياسيا في قمة الهرم الفصائليأو المؤسساتي أو مواطنا بسيطا عاديا, يعرف على وجه اليقين , أنه تحت سقف الانقسام الأسود,فإننا عاجزون بالمطلق عن النجاح في أي شيء, أو حتى استثمار ما بين أيدينا من أوراق,أو أن تكون لنا خيارات، فهذا الانقسام يقف لنا بالمرصاد مثل «العمل الردي» كما يقولالمثل الفلسطيني، أما هذا الشيء القاتل الذي نحن فيه , المصحوب بالتآكل , الذي اسمهالانتظار, ومهما جملناه وزوقناه وعزفنا له الأناشيد البائسة, فلا يمكن ولا يصلح أنيكون خيارا حتى لو توهم البعض أنه كذلك.

أين تاهت المصالحة؟

هل دخلت في أحد الأنفاق على الحدود في رفح ولم تخرجمثل بعض الصبية الصغار الذين تطمرهم الرمال ويبقون تحتها؟ هل المصالحة دفعت ثمنا مقدمالهذه التهدئة التافهة التي بلا معايير والتي وافقنا عليها مع الاحتلال الإسرائيلي بعدالحملة الدموية الصاعقة التي كانت مصحوبة بالدماء والانذارات؟ هل المصالحة هي ضحيةصراع القوى الداخلي الموجود لدى بعض فصائلنا ويعصف بها من داخلها رغم كل الأكاذيب,فلا نجد ما نهدئ به وحش هذه الخلافات سوى أن نلقنه برأس المصالحة قربانا؟ هل سلمنارقابنا بالكامل لأوهام الربيع العربي الذي بدأ ينفث سموم الخريف, وأصبحنا منكفئين بشكلعاجز ومحزن انتظارا لمجيء «جودو» الذي لا يأتي أبدا, أو في انتظار أن يزحف إلينا الإخوانالمسلمون قادمين من مصر بعد غرقهم في المشاكل العويصة التي صنعتها أيديهم? هل نحن فيانتظار انتهاء سنة الانتخابات الاميركية التي ثبت أن إسرائيل واللوبيات الداعمة لهاهي بطلها الأول? هل نحن ننتظر أن يحدث انقلاب في إسرائيل على هذا التغول اليميني الذييجعل من المستوطنين في الضفة الغربية دولة شبه مستقلة عن إسرائيل ؟؟؟

أين ذهبت المصالحة؟

لماذا خرجت هكذا بصمت من يومياتنا الفلسطينية فنسيناها,ولم نعد حتى نتلاوم بشأنها !!! دفناها وسط أكوام من المنظومات الكلامية التي لا يصدقهاأحد, وقرأنا على جثمانها المسجى سورة السكتة ثم أوغلنا في دروب الانتظار السلبي, حيثلا أحد منا على الاطلاق يعرف ما الذي ننتظره على وجه التحديد, اللهم إلا إذا كان الأمرالواقع المتراكم هو الذي يفرض الصيغة النهائية.

في العادة: حتى في القرى الصغيرة البعيدة المعزولة,فإنه حين لا يكون هناك حرث ولا زرع ولا حصاد, فإن القرويين البسطاء ينشغلون بترميمبيوتهم وخوابيهم, وينشغلون في اطفاء خلافاتهم التي ألحقت بهم المهانة مثلما فعل الانقسامبنا, فلماذا نحن لا نفعل شيئا, سوى ادمان الكلام الفارغ المكرر والممل, والبحث عن خلافاتصغيرة نختبئ وراءها حتى نبرر هذا الخروج البائس من اللعبة؟

أقول لكم بصراحة: هذا الانتظار, هذا النموذج من الانتظارالسلبي لا ينتج سوى الانفجار !!! لان الإنسان الفلسطيني في هذا الانتظار السلبي يفتقدنفسه وقضيته وحلمه ومصيره ويفتقد حتى نسق حياته العادية, فكيف نعيش دون ذلك كله؟

الصورة تبدو قاتمة أكثر وفادحة اكثر في قطاع غزة, لأنقطاع غزة مضغوط كله في المكان الضيق, وإذا توفر الوقود للسيارات فإن الإنسان يقطعهطوليا في نصف ساعة, ويقطعه عرضيا في عشر دقائق, إنه النموذج المكثف, لا توجد فيه حواجزإسرائيلية, ولا بؤر للمستوطنين, ولا يوجد مدى يمتد إليه البصر, وما يقال على لسان أيةجهة يمكن اكتشاف صدقه أو كذبه في دقيقة واحدة? لا يوجد احتلال مباشر بلحمه ودمه نرميأحمالنا عليه، وهكذا يصبح الفشل واضحا إلى حد الصدمة, الفشل السياسي حيث الرهانات الوهميةلا تنجح, والفشل في إدارة تفاصيل حياتنا اليومية, ولذلك لا مجال للتفلسف, ولا مجالللإنكار، وفي وضع مثل هذا لا يمكن أن نلوذ بالانتظار, ولا نستطيع بأي وسيلة حبا أوكراهية مرونة أو خوفا, أن نصادر عوامل الاحتقان والانفجار, فأين تاهت المصالحة, فيأية زواريب فصائلية, وفي أية ارتباطات إقليمية أضعناها, وبقينا هكذا نضع أيدينا علىخدودنا مثل عجائز الخريف غارقين في الانتظار؟