من بديهيات عالم السياسة، وأحد نواظمها الأساسية، أن مطلق تحالف استراتيجي أو تكتيكي معرض للتفكك، والانقلاب على عقبيه، ارتباطًا بتغير مصالح الدول، وثابت اليوم متحول غدًا، والعكس صحيح، وحليف اليوم قد ينقلب إلى خصم أو عدوٍ غدًا، لأن الثابت هو مصالح الأنظمة والدول، ومن المفارقات الهامة على هذا الصعيد، انتشار شائعات تضمنتها تقارير متناثرة في وسائل الإعلام الأميركية، مثل مجلة "نيوزويك"، التي نشرت قبل يومين تقريرًا يُفِيد، أن هناك نية لدى الرئيس دونالد ترمب بسحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو التحالف الاستراتيجي الذي يربط أميركا الشمالية مع دول أوروبا، الذي تأسس منذ 75 عامًا، أي في عام 1949، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وهذا ما عكسته تصريحات نائب الرئيس جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ الأمني قبل ثلاثة أيام، حيث هاجم الدول الأوروبية عمومًا وألمانيا خصوصًا، مما دعا المستشار الألماني، شولتس للرد عليه، رافضًا التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية الألمانية، من خلال دعمه أحد الأحزاب اليمينية المتطرفة، عشية الانتخابات البرلمانية الألمانية.
كما أن اختيار الإدارة الأميركية العاصمة السعودية، الرياض مكانًا لإجراء المحادثات الأميركية الروسية، لتطبيع العلاقات الثنائية المشتركة بين البلدين، التي بدأت أول أمس الاثنين 17 شباط/فبراير الحالي، وهي سابقة سياسية، استهدفت عزل دول أوروبا عن المباحثات بين القطبين الروسي والأميركي، والذي يستهدف ضمن مجموعة من الأهداف تجسير العلاقة مع روسيا الاتحادية على حساب أوكرانيا، مما آثار مخاوف من انكفاء وتراجع التزام واشنطن تجاه أوروبا عمومًا والرابط معها حلف الناتو.

وعلى إثر المحادثات الأميركية الروسية، أعرب العديد من قادة أوروبا عن انزعاجهم وقلقهم من استبعادهم عنها، وترافق ذلك، مع مواقف متحفظة من قبل الرئيس الـ47 نحو شركائه الأوروبيين، حيث كان طالبهم بزيادة اسهاماتهم في الحلف بنسبة 5% من مداخيلهم القومية، وهذا الموقف ليس جديدًا للرئيس ترمب، الذي وجه انتقادات حادة لحلفائه الأوروبيين بسبب عدم التزامهم بإسهاماتهم بزيادة الانفاق بنسبة 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على ميزانية الدفاع، وهو أحد الأهداف التي تم الاتفاق عليها عام 2014، والذي كان يفترض أن يتم بحلول العام الماضي 2024. وهو ما عاد لإثارته خلال حملته الانتخابية في تجمع انتخابي في ولاية كارولينا الشمالية قبل عام من الآن، أي في شباط/فبراير 2024، عندما أكد أنه أبلغ قادة الناتو، أن الولايات المتحدة لن تحمي الدول الأعضاء التي لا تفي بالتزاماتها الدفاعية، رابطًا ذلك، بإمكانية تشجيع روسيا على التصرف بحرية ضد الدول المتقاعسة بتسديد التزاماتها في ميزانية الحلف. وكأنه يستخدم روسيا كبعبع لتخويف الدول الأوروبية، ودفعهم لتسديد التزاماتهم المتفق عليها.

وكان الصحفي والمعلق السياسي، دومينيك تريبي عبر عن ذلك على منصة "إكس"، بالكتابة أن "ترمب يفكر في الانسحاب من الناتو"، لكنه لم يقرن موقفه بمصدر موثوق حول استشرافه بتفكيك الحلف. كما أن مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، أشار في لقاء مع إذاعة "إل بي سي" البريطانية، أن الرئيس ترمب قد يستخدم إنهاء الحرب في أوكرانيا كذريعة للانسحاب من الناتو، مستشهدًا بمطالبته مؤخرًا بأن ترفع الدول الأعضاء زيادة انفاقها الدفاعي إلى 5% من ناتجها المحلي.
ويندرج في هذا التوجه، ما أثاره تصريح بيت هيغسيت، وزير الدفاع الأميركي، عندما أعلن في اجتماع لمجموعة الاتصال الدفاعية الخاصة بأوكرانيا إن "الواقع الاستراتيجي للولايات المتحدة لم يعد يسمح بالتركيز الأساسي على أمن أوروبا". وأرفق ذلك بتصريح أثناء زيارته لوارسو عن ضرورة أن تستعد أوروبا لاحتمال تراجع الوجود الأميركي في القارة العجوز. وترافق مع ذلك عن نية الولايات المتحدة سحب 20 ألفًا من قواتها الموجودة في أوروبا، وأيضًا اتخاذ ساكن البيت الأبيض قرارًا برفع الرسوم الجمركية على الشركات الأوروبية.
هذه وغيرها من المؤشرات تشي بإمكانية انسحاب واشنطن من الحلف. خاصة وأن الرئيس الأميركي لا يتورع عن اتخاذ أية مواقف دراماتيكية وانقلابية، وخارجه عن الصندوق، مع أن وجود الحلف الاستراتيجي بين أميركا الشمالية وأوروبا يعتبر مصلحة حيوية أميركية، بقدر ما هو مصلحة استراتيجية لدول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي لم يكن إنفاق واشنطن على الحلف مجانًا، أو لسواد عيون أوروبا. لكن السؤال هل تعتقد إدارة ترمب، أن المعادلات الجيوسياسية تغيرت؟ وهل أمست روسيا الاتحادية وتجسير العلاقة معها، أكثر حيوية للمصالح الأميركية من أوروبا؟ وما هو المردود الاستراتيجي البديل عنها للمصالح الاستراتيجية الأميركية؟ وغيرها من الأسئلة ذات الصلة.
مع ذلك يبقى موضوع الانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) رهن الانتظار، خاصة وأن مجمل المواقف الأميركية الرسمية المعلنة لم تصل إلى حد التأكيد بفرط عقد التحالف الغربي، لأن تداعياته لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة.