يتميَّز الرئيس أبو مازن بخطابه السياسي الواقعي، وهو يخوض معركة تحطيم ما تعتمده حكومة نتنياهو المتطرفة من مفاهيم عدائية وعنصرية لإظهار الجانب الفلسطيني بأنه معادٍ لعملية السلام، وأن الرئيس أبو مازن لم يعد شريكاً في صنع السلام، وأنه عدوٌ للسامية، وهذا كان بارزاً في التصريحات والمواقف السياسية الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين علنا، وهو ما سمعناه من تسيبي لفني، ونتنياهو، وليبرمان وغيرهم، وهي محاولة مدروسة لتعبئة وتحريض الشارع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين من أجل أن يتقبل الإجراءات والعمليات العسكرية والعنصرية والأمنية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وخاصة القدس.
من هنا جاء خطاب الرئيس أبو مازن الموجَّه إلى حوالي ثلاثماية شاب وشابة من الطلبة الإسرائيليين من اتجاهات سياسية مختلفة جاؤوا ليستمعوا إلى الرئيس أبو مازن الذي تتهمه قيادتهم أمام العالم بأنه عدوٌ للسلام.
تناول الرئيس القضايا الجوهرية والثوابت الوطنية التي سبق أن عبَّر عنها وخاض المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي على أساسها، ولم يتحرك قيد أنملة عن هذه الثوابت، مما اضطر وزير الخارجية الأميركي أن يُعلن فشله في الوصول إلى اتفاق بين الطرفين، وانتقل الآن إلى خطوة أدنى في الطموح الأميركي وهي اتفاق الإطار، وهو عبارة عن مجموعة مبادئ تتعلق بحل الصراع تأخذ بعين الاعتبار تسجيل موقف كل طرف، وستحاول واشنطن تسويقه على أنه إنجاز، وأنه يحتاج إلى خمس سنوات من المفاوضات على الأقل، والواضح طبعاً أن كيري يتماهى مع الرغبات والمصالح الإسرائيلية التي تقوم على استمرار وتصعيد الاستيطان، واتخاذ المزيد من الإجراءات المتعلقة بالهدم والطرد، والبناء غير المشروع من أجل السيطرة على القدس باعتبارها حسب المفهوم الإسرائيلي عاصمة الكيان الإسرائيلي.
كثيرون اعترضوا على الخطاب ومضمونه ومن منطلقات متعددة، ومن هؤلاء المعترضين من ألبسَ اعتراضه لباسَ الحقد والضغينة، أو لباس المناكفة السياسية، أو التشهير والتحريض، والبعض وصل إلى حدود التجريم والتخوين، والبعض القليل كان اعتراضه نابعاً من قناعاته بأن الخطاب السياسي يجب أن يكون دائماً حاداً وفي منتهى الجرأة اللفظية للتعبير عن المعنويات العالية.
هذه الاعتراضات بأنواعها المذكورة جاءت في وقت أثبت فيه الرئيس أبو مازن قدرة مميزة في إدارة المفاوضات خلال الفترة السابقة، كما اثبت لجميع الأطراف بأنه متمسك بالثوابت الوطنية وأنه يرفض الألاعيب الأميركية والإسرائيلية، وانه ظلَّ متمسكاً بأن تكون المفاوضات وأية اتفاقات تنتج عنها قائمة على قرارات الشرعية الدولية، رغم أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس، وان كيرى وزير خارجية الولايات المتحدة إعترف بأن القيادة الفلسطينية لم تستجب لطروحاته، وانه اضطر للتخلي عن برنامجه الأول القائم على أيجاد حل شامل للقضايا النهائية، واللجوء إلى برنامج آخر اسمه " إتفاق الإطار" وهو يعرض وجهتي النظر، وغير مطلوب من أي طريف أن يتنازل عن وجهة نظره، وان هذا الإطار يصلح للتفاوض على مدى سنوات أي أن الولايات المتحدة مازالت ترعى عملية السلام. ولم تُقدِم أية صيغة واضحة للجانب الفلسطيني حتى الأن وإنما هناك تسريبات، ورغم هذا الموقف الواضح إلا أنَّ هناك أطرافاً تصر على تسجيل الإدانة، وتصرُّ على أن تكون جزءاً من الحملة القاسية على الرئيس أبو مازن، وأن ترفع سيوفها إلى جانب السيوف المشبوهة لتشويه الشخصية الوطنية للرئيس الفلسطيني، والتحريض عليه، وإضعاف موقفه، وهذا كله ما يعزِّز الموقف الإسرائيلي على حساب الموقف الفلسطيني.
أنَّ الرئيس أبو مازن في معركته التاريخية اليوم الرامية لتثبيت الحقوق الوطنية الفلسطينية بأمس الحاجة إلى أبناء حركة فتح الشرفاء، وإلى المناضلين الوطنيين الذين ليس عندهم أجندات غير وطنية، وإلى أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات الحريصين كل الحرص على قضيتهم، والمتمسكين بحركة فتح لأنها صاحبة القرار المستقل، وصاحبة التاريخ المُشرِّف وصاحبة الطلقة الأولى، أمثال هؤلاء مطلوب منهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد، وأن يلتفوا حول قيادتهم التاريخية المتمثلة اليوم بالرئيس أبو مازن المُنتخَب من شعبه، والمنتخب من أعضاء المؤتمر السادس لحركة فتح بكامل أعضائه، وبثقة مطلقة من الجميع.
إنَّ وقوف القواعد الفتحوية إلى جانب قيادتهم الحالية وحولها، وحمايتها من الاستهداف الإسرائيلي وغير الإسرائيلي الذي يعتبر الرئيس أبو مازن عقبة كأداء أمام مخططاتها لابد من إزالتها حتى تتمكن من استكمال مشروعها الصهيوني.
إننا نذكِّر الجميع بأن ما تمارسه إسرائيل اليوم من ضغوطات وتهديدات للرئيس أبو مازن هو نفسه المخطط العدواني الذي استهدف الرئيس الرمز ياسر عرفات، فعندما عجزت القيادة الإسرائيلية عن إرغامه على التراجع عن تمسكه بالثوابت الوطنية أوعزت إلى عملائها، وخصوم القضية الوطنية، والأدوات الرخيصة بأن تبدأ حربها على الشهيد ياسر عرفات لتصفيته سياسياً ووطنياً ثم التخلص منه جسدياً، واستشهد الرمز ياسر عرفات. اما أصحاب السهام الحادة، والأدوات الرخيصة فقد قدَّموا خدمات جليلة إلى الحركة الصهيونية أهمها التخلص من ياسر عرفات. فهل تتمكن هذه الأدوات الرخيصة من التخلص من الرئيس أبو مازن خليفة ياسر عرفات، وحامل ثوابته الوطنية، ورفيق دربه، وابن مدرسته مدرسة الفتح الرائدة؟!!
إنطلاقاً مما سبق فإننا لا نرى مبرراً للهجمات القاسية والتضليلية والتخوينية، والتحليلات غير الموضوعية التي تفتقر إلى المصداقية إزاء المواقف والخطاب السياسي الفتحاوي، وخاصة ما جاء مؤخراً في كلمة الرئيس أبو مازن أمام الطلاب الإسرائيليين وتوضيحه للكثير من الحقائق مستخدماً أسلوب الإقناع، واضعا هذه الشريحة الطلابية أمام مسؤولياتها وخاصة عملية السلام ومضمونها.
وأنا هنا أشير إلى مجموعة قضايا لابد من توضيحها وهي :
- من حق الرئيس أبو مازن أن يخاطب العقل الإسرائيلي المشحون بالكراهية ضد شعبنا الفلسطيني عبر هذه الشريحة، وعبر غيرها ، وقد سبق له أن التقي عدداً كبيراً من الكتاب والإعلاميين ، وفي الخارج التقى مجموعات يهودية في أميركا،وفرنسا،وبريطانيا. وهذا يحتاج إلى جرأة والى خبرة في الايديولوجيا الصهيونية، وهذا متوفر لدى الرئيس أبو مازن لأنه حصل على شهادة دكتورة في الحركة الصهيونية من موسكو ، ولديه مؤلفات عديدة.
- الرئيس قي بداية خطابه وضع الأساس الصلب لكل ما طرحه عندما قال "نحن نقول أي سلام يجب أن يكون مبنياً على الشرعية الدولية التي هي من أنشأت دولة إسرائيل، فدولة إسرائيل قامت على أساس قرار صادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ونحن الآن ما نطالب به تطبيق الشرعية الدولية (...) إن الدولة الفلسطينية تقوم على أساس حدود العام 1967 .ثم نقول إن هناك قضايا الوضع النهائي يجب وضعها على الطاولة لنحلها حلاً مبنياً على أساس الشرعية الدولية". إذاً قرارات الشرعية الدولية هي الأساس بدون مواربة.
- ثم تطرق لموضوع حدود الدولة الفلسطينية "وهي على أساس حدود الرابع من حزيران ،وقلنا لا مانع من إجراء تبادل طفيف بالقيمة والمثل في الأراضي لتسهيل بند تحديد الحدود"، وهذا الكلام تم الاتفاق عليه مع الجانب الإسرائيلي من أيام الرئيس الرمز ياسر عرفات، وأن نسبة التبادل بين 5’1، واثنين بالمئه. فالجانب الفلسطيني لديه احترام للتعهدات فأبو مازن يحترم تعهدات الرئيس أبو عمار ،وليس كما فعل نتنياهو وألغى تعهدات أولمرت، وهذا سؤال مطروح على الجانب الإسرائيلي ليتعرف أكثر على قيادته.
ثم أعطى الرئيس مثلاً آخر لنقض الحُجَّة الإسرائيلية بما يتعلق بالأمن وأنها خائفة على نفسها من الأطراف المجاورة ، وأنها لهذا السبب تصرُّ على البقاء في الأراضي الفلسطينية وعلى الحدود الفلسطينية ، فيقول الرئيس :"لنأتِ بطرف ثالث يأتي إلى أرضنا من أجل أن يحمي الأمن في المنطقة لنا وللإسرائيليين ،قبلنا أن يكون الطرف الثالث هو الناتو". لكنَّ إسرائيل طبعاً رفضت مباشرة هذا الاقتراح الفلسطيني علماً أن الناتو صديق الإسرائيليين وهذا إثبات أخر بأن الجانب الإسرائيلي يريد الاستفراد بالاراضي و الحدود الفلسطينية من أجل مزيد من الاستيطان.
5. وحول قضية اللاجئين فإن الموقف واضح سواء في حركة فتح أو في منظمة التحرير الفلسطينية ، وفي مختلف المؤتمرات واللقاءات بأن حل موضوع اللاجئين يكون استناداً إلى القرار 194 أي أنه حق فردي بالعودة والتعويض ، ولا أحد ينوب عن أحد، وهذا هو الاساس في الموضوع فلماذا يذهب البعض بعيداً في التأويلات التي لا مكان لها هنا فالفرد هو الذي يقرر هل يريد العودة مع التعويض، أو يريد التعويض فقط: وموضوع العودة يلتقي حوله كل الشعب الفلسطيني الكبير والصغير وكافة الفصائل لأنه لا يمكن بعد مرور خمسة وستين عاماً على النكبة أن يفرض أحدٌ على شعبنا عدم العودة، وما قاله الرئيس أبو مازن حول هذا الموضوع في اللقاء مع الطلاب الإسرائيليين هو:
"هناك دعاية تقول أن أبو مازن يريد أن يعيد إلى إسرائيل خمسة ملايين لاجئ لتدمير دولة إسرائيل، هذا الكلام لم يحصل إطلاقاً، كل الذي قلناه هو تعالوا لنضع ملف اللاجئين على الطاولة لأنها قضية حساسة يجب حلها لنضع حداً للصراع، ولكي يكون اللاجئون راضين عن اتفاق السلام. لكن لن نسعى أو نعمل على أن نغرق إسرائيل بالملايين لنغيِّر تركيبتها السكانية، هذا كلام هراء وما يقال في الصحافة الإسرائيلية هو غير صحيح". وهنا كان الرئيس يرد على اتهام من السائل بأنك تريد إغراق إسرائيل باللاجئين.
وهنا من حقنا إثارة مجموعة أسئلة حول ما يريد الرئيس أبو مازن أن يصل إليه من حديث:
- الرئيس أبو مازن كرئيس ليس هو الذي يتحكم بعدد اللاجئين الفلسطينيين الراغبين بالعودة، أو الذين لا يرغبون، فهذا موضوع يقرره كل فرد حسب رغبته وظروفه، وما يقوله الإسرائيليون حول أن الرئيس يريد إغراق إسرائيل باللاجئين غير صحيح وإنما حقهم بالعودة والتعويض هو الذي يقرر عدد الراغبين بالعودة والتعويض، وبذلك يكون الرئيس وبالمنطق السياسي استطاع أن يدمِّر سلاحاً يستخدمه الإسرائيليون ضد حق العودة.
- من الناحية المنطقية وبحكم الشتات في معظم دول العالم العربية والأوروبية والأمريكية والقارات الخمس مَنْ الذي يستطيع أن يحسم الأمر بأن كَّل اللاجئين مصممون على العودة، أليس هناك من يرفض العودة لأنه لا يريد العيش في ظل "دولة إسرائيل" أليس هناك من أصبح يحمل جنسية دولة أو أكثر من دولة وأصبح له مكانته في تلك الدولة سياسياً أو اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو ثقافياً، وهو بالتي يفضِّل أن يبقى حيث هو مع أنه يعشق فلسطين، ويتمنى الذهاب إليها وزيارتها لكنه لا يريد الإقامة هناك في ظل "دولة إسرائيل"؟ أليس هناك جاليات فلسطينية كبيرة أصبحت تشكل شرائح ذات أهمية في المجتمعات سواء في أميركا الجنوبية أو في الشمالية أو في كندا واستراليا وأوروبا وغيرها، لكنهم يحيون كل المناسبات الوطنية، ويعتبرون فلسطين وطنهم، ولا ينقطعون عن الزيارة، فمن يستطيع الحكم على هؤلاء بأنهم سيتركون هذه البلاد التي أسسوا فيها حياتهم الاجتماعية مع احتفاظهم بفلسطين في قلوبهم؟
- أليس هناك من الفلسطينيين اللاجئين من يريد العودة إلى أراضي الدولة الفلسطينية حيث هناك نظام حكم فلسطيني، وهناك أقاربه وأصدقاؤه، وهناك يستطيع أن يطوِّر هذه الدولة لتكون الأرقى والأقوى؟
هذه الاحتمالات يجب أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة موضوع اسمه حق العودة للاجئين إذا أردنا أن نكون موضوعيين طالما أن الفرد هو الذي يقرر.
4- والشيء الأهم هو أن مثل هذا الحق حتى نستطيع انتزاعه والمفترض أن ننهي الانقسام، وأن ننجز المصالحة والوحدة الوطنية، لأن الانقسام صناعة إسرائيلية من أجل عدم التوصل إلى حق العودة . أي لا بد من تطوير العامل الذاتي الفلسطيني في عملية الصراع. ومنطق الصراع يقول أيضا بأن مثل هذا الحق حتى يتم انتزاعه لا بد من تغيير في موازين القوى الدولية والإقليمية التي تعزًّز من دور الجامعة العربية ودول العالم الثالث، وتطور الموقف الروسي بوجه الولايات المتحدة، وعندما يتغيًّر الوضع الدولي يصبح بإمكان مجلس الأمن أن يضغط على الكيان الإسرائيلي من أجل تنفيذ القرارات الصادرة بحق الاحتلال الإسرائيلي الذي يمثل قمة العنصرية.
أنا أقول من حقنا أن نكون حريصين على قضايانا وثوابتنا الوطنية، لكن ما لا نقبله من أي جهة فلسطينية، ومن موقع الشراكة الوطنية أن تؤوَّل بعض العبارات من أجل تضليل عامة الناس، وتخوين الرئيس أبو مازن الذي يخوض أشرس معركة ضد العدوان الإسرائيلي على حقوقنا ، وأرضنا، وشعبنا، وهو بأمس الحاجة إلى الشرفاء من أبناء شعبنا ، أبناء ياسر عرفات ، صاحب القرار الفلسطيني المستقل الذي رفض التبعية والوصاية ودفع حياته ثمن مواقفه الصلبة ، ونحن نعاهد الرئيس أبو مازن أن نلتفَّ حوله لأنه ما زال الاحرص على ثوابت ياسر عرفات. والأقدر على حمل الأمانة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها