بقلم: بشار دراغمة
عند مدخل مخيم الفارعة تشمخ عبارة تختصر حكاية تمتد لعقود، "محطة انتظار مؤقتة لحين العودة"، لكنها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو كصرخة في وجه النسيان، كأنها تتحدى محاولات اقتلاع الحلم من الجذور.
وفي ظلال الفجر المتثاقل، يرقد مخيم الفارعة منذ تسعة أيام على جراحه، يئن تحت وطأة الغزاة، يروي أرضه بدمع النازحين وخطواتهم المثقلة بالرعب، كأن التاريخ يعيد نفسه في مشهد مكرر للتهجير، حيث القلوب تسبق الأجساد، وتلوح للبيوت التي احتضنت الحكايات، وللأزقة التي خبأت تحت أنقاضها صدى الأمل المؤجل.
منذ تسعة أيام والمخيم يعيش في حضرة الموت، حصارًا محكمًا، كابوسًا لا ينتهي. وأوامر عسكرية تلقى كالرصاص في آذان الأهالي: "غادروا منازلكم وإلا.. وإلا ماذا؟ سؤال يعرف إجابته كل من مر بنار التهجير واللجوء. لكن الخروج لم يكن كافيًا لإطفاء نار الحقد، فالرصاص لحق بالأجساد حتى بعد الرحيل، وفق روايات النازحين.
أكثر من ألفي روح انتزعت من مكانها عنوة، بينما تجرف آليات الاحتلال ما تبقى من معالم الحياة في المخيم، شوارع تحوّلت إلى خراب. بنية تحتية تقاوم الاندثار، لكنها لا تقوى على الوقوف في وجه الحديد والنار، خطوط المياه قطعت، الكهرباء انطفأت، وكأن الاحتلال لا يريد للمخيم أن يحيا حتى في الظلام.
يروي محمد حسن الشاهد على النزوح، تفاصيل جزء من تدمير المخيم الممنهج، قائلاً: "لم يبق الاحتلال ظروفًا مواتية للعيش، يدمر كل شيء، يجرف الطرقات ويطلق الرصاص في كل اتجاه، لا يريدون لأحد أن يبقى في المخيم، هي حكاية تهجير جديدة".
ويتابع حسن، بعينين حبست دموعًا في مآقيها: "كنا نعيش رغم الضيق، نصنع من القليل حياة، ولكنهم لم يتركوا شيئًا. كانوا يدخلون المخيم كالوحوش، لا يميزون بين حجر وبشر، يسحقون كل ما في طريقهم. رأيت بأم عيني الجرافات تلتهم الطرقات التي لطالما مشيناها، كأنهم يريدون محو ذاكرة المكان قبل أن يمحونا. البيوت التي احتضنت دفء العائلة، تهاوت أمام أعيننا، والجدران التي علقنا عليها صور أحلامنا انهارت تحت وقع آلة الحرب".
ويضيف: "هربنا تحت الرصاص، نحمل أطفالنا وألمنا، غير قادرين حتى على الالتفات إلى الخلف. لم يكن نزوحًا، كان اقتلاعًا قسريًا لنا، لم يتركوا لنا خيارًا".
على أطراف الطريق الموحل بالخوف، كان الحاج أبو يوسف يسير متكئا على عكازه الخشبي، الذي صار شاهدًا على نزوحه الثاني، عقود طويلة حملها على كتفيه، لم تثقل خطاه بقدر ما أثقلها الحنين، يجر قدميه ببطء، كأنه لا يريد مغادرة المخيم، وكأن روحه تقاوم الرحيل رغم أن الاحتلال لم يترك له خيارًا.
عيناه المغرورقتان بالدموع تتشبثان بكل زاوية عبرها، بكل حجر احتضن صباه، بكل جدار كتب عليه يومًا أسماء أحفاده. "ليس محطة انتظار أخرى"، تمتم بصوتٍ خافت، كأنّه يخاطب ذاكرة المخيم.
في الطرقات، كانت الأمهات تغادر المخيم وعيناها تبحث عن زاوية أمان ولو مؤقتة، فيما الأطفال، بوجوههم المذعورة، كانوا يسألون أسئلة لا إجابة لها، ولسان حال المواطنين يقول: كيف نشرح لهم أنه حتى محطة الانتظار المؤقتة أجبرنا على مغادرتها؟.
يؤكد محافظ طوباس أحمد الأسعد أن الاحتلال أجبر المواطنين على النزوح عبر مسار واحد، وأخضعهم لعمليات تفتيش قبل السماح لهم بالنزوح عن المخيم.
ويشدد الأسعد على أن ما يجري في الفارعة ليس عملية أمنية كما يدعي الاحتلال وإنما عملية سياسية تهدف لإفراغ المخيمات من سكانها، مشيرًا إلى أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" لم يُسمح لها بالعمل في المخيم.
وقال الأسعد: إن مئات العائلات في مخيم الفارعة أجبرت على مغادرة منازلها في المخيم. وأضاف: "الآلاف من المواطنين أجبروا تحت تهديد السلاح على إخلاء منازلهم والخروج من المخيم والذي يعاني من إغلاق وحصار محكمين".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها