أسباب عديدة معلومة دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتصريح بضرورة التريث (عدم الاستعجال) بشأن خطة التهجير القسري لمليوني مواطن فلسطيني من قطاع غزة، ومهد لهذا الدوران للخلف كما يمكن وصفه بأن قال أن ما طرحه مشروع اقتصادي، كان قد سمع الموقف منه قبل أن ينطق به من الرئاسة الفلسطينية في بيانها قبل بضعة أيام، جوهره أن أرض فلسطين بما فيها قطاع غزة ليست للبيع، ولن تكون مشروعًا استثماريًا، اقتصاديًا ولا سياسيًا حتى. فتضحيات الشعب الفلسطيني لا تستثمر بمفاهيم الامبريالية الاستعمارية، وإنما هي القوة العظمى، الدافعة لمنهج العمل الوطني بإخلاص من أجل الحرية والاستقلال.
الموقف الفلسطيني، المسنود بموقف عربي متميز، من قيادات الدول العربية، وتحديدًا جمهورية مصر والمملكة الأردنية الهاشمية، وتوجته قيادة المملكة العربية السعودية بموقف واضح ودقيق، لا يحتمل أي تأويل أو تفسير غير الذي جاء في مضمونه، كما صدر عن وزارة الخارجية حول موقف المملكة من قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، أن موقف بلادها من قيام الدولة الفلسطينية "راسخ وثابت ولا يتزعزع، وليس محل تفاوض أو مزايدات". ما يعني أن الحق الفلسطيني خارج نطاق ومنطق الاستثمارات الاقتصادية، فللسياسة الخارجية لكل دولة في العالم مبادئها، ومنهجها، وأخلاقياتها، ولا يمكن، أخذ كل القضايا والملفات بمعيار واحد. وبمعنى شديد الوضوح أن أي علاقات سعودية مع إسرائيل لن تكون قبل قيام دولة فلسطين على أرض فلسطين، فالمملكة التي أصبحت مبادرتها واحدة من مرجعيات "حل الدولتين" الرئيسة، لا يمكنها التفريط أو التراجع عما أجمعت عليه الدول العربية، كما يستحيل عليها الانسحاب في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، التي ستحدد مصير فلسطين والدول العربية بدون استثناء، وترك الميدان مفتوحًا خاليًا، لأباطرة الفرس الجدد في إيران، المتخفيّن بأسماء وأثواب ومظاهر (إسلاموية)، الذين ينتظرون لحظة انهيار دول عربية للانقضاض والاستيلاء عليها تحت يافطة "تحرير فلسطين"، المكتوبة على ورق يذوب بالماء، وتحرقه أشعة الشمس بدون عدسة عاكسة، وثبت كل ذلك بالتجربة.
تقديراتنا أن دعوة ترامب للتريث بشأن خطة التهجير مبعثها عدة أسباب: أولها أنه لا يريد التسرع، حتى لا يجد نفسه واقفًا على ركام وأطلال الاتفاقيات الإبراهيمية، لأنه إن مضى بخطة التهجير القسري لمواطني غزة، فإنه سيطلق رصاصة الرحمة على مشروعه الذي ما زال يعتبره - حسب وجهة نظره- "اعجازًا سياسيًا" حقق بعضه في فترة رئاسته السابقة، وكان قد وعد الناخبين بتوسيعه، أما اصراره على التهجير القسري للفلسطينيين، وإحداث تغيير ديمغرافي في بلاد عربية مجاورة لفلسطين، فهذا سيؤدي حتمًا إلى إعدام أي إمكانية لحل الدولتين (وقيام دولة فلسطينية) ونعتقد حتى اليقين أنه لن يجد دولة عربية لتنخرط في خطته لاغتيال هذا الحق الفلسطيني، الذي أقرت به الدول، التي لم تعترف بدولة فلسطين حتى الآن أيضًا.
لكننا نعتقد وفقًا لتقديراتنا أن تريث ترامب، جاء بعد اطمئنان نتنياهو برفع الحظر الأميركي عن أسلحة وذخائر متطورة ومنها المسماة (أم القنابل) الخارقة للتحصينات العملاقة، التي لا يستبعد استخدامها، لاستكمال حملة الإبادة والتدمير في قطاع غزة، خاصة بعد أن منحت حماس ذريعة إضافية باستعراضاتها المسلحة خلال فترة توقف إطلاق النار الحالية، ولا نغفل هنا أن ما حدث ليس هدنة، بل اتفاق لإيقاف النار في إطار صفقة تبادل الأسرى.
فنتنياهو الذي ما زال في واشنطن ربما همس في أذن ترامب للتريث، لسببين: الأول أنه لا يريد مزيدًا من ساسة وجنرالات إسرائيليين متهمين أمام الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جريمة حرب، والسبب الآخر، أنه سيرتب الذرائع لاستئناف حملة الإبادة، وربما القضاء على نسبة الـ10% من مقومات الحياة والعمران في القطاع، حتى تتحقق مقولة خليل الحية رئيس ساسة حماس: "إن غزة منطقة منكوبة لا يمكن العيش فيها أبدًا"، وهنا يصبح تنفيذ التهجير الجريمة أصلاً، مشروعًا في نظر الكثيرين الذين لن ينظروا لفاعلها، وإنما سيأخذون النتائج الكارثية لتبرير التهجير حتى ولو تحت مسمى مؤقت.
هناك أمر ثالث، وهو أن نتنياهو قد لمس مواقف متقدمة من أوروبا ودول العالم، رفضت خطة ترامب، وطرحت البديل للاستقرار في المنطقة، بتمكين الشعب الفلسطيني من قيام دولة مستقلة وفقًا لحل الدولتين كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، وبذلك فإن نتنياهو قد يرى طريقة إخراج مناسبة، للابقاء على قوة ما لحماس، تحكم غزة بأسلحة فردية ومتوسطة، لكنها لا تؤثر على أمن منظومة الاحتلال الإسرائيلي وتحديدًا المستوطنات وهذا سيكون، سببًا قويًا مانعًا لتجسيد دولة فلسطينية في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، ولنا في بيان حماس أمس بمضمون، أن قوة كتائب القسام التي ظهرت أثناء تسليم الرهائن الإسرائيليين تؤكد أن اليوم التالي سيكون فلسطينيًا.
رغم أن حماس لم توضح المقصود، لكن الأمر أوضح من الشرح، فجماعة حماس يقصدون ما يقولون، بأن اليوم التالي، سيكون حمساويًا، لمعرفتهم أن حملة نتنياهو إثر 7 أكتوبر 2023 الذريعة كانت لتدمير إمكانية دولة فلسطين، عبر إبادة وتهجير وتدمير قطاع غزة ومقومات حياة هذا الجزء المقدس من فلسطين الوطن والدولة، وليس تدمير دويلة حماس الانقلابية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها