بقلم: رامي سمارة
استقرت كريمة معلا (80 عاماً) على الفرح، بعد أن اختلطت عليها مشاعرها بين السرور للإفراج عن نجلها جاد من سجون الاحتلال الإسرائيلي، والأسف على إبعاده خارج فلسطين.
زُين مدخل البيت الكائن في البيرة بالأعلام والمطبوعات، ورُصت المقاعد في الساحة الخارجية وفي الشرفة المجاورة، وأوقدت مدفأة الحطب، وأحضرت البقلاوة والقهوة.
وبين صور جاد التي رُفعت في كل زاوية، جلست كريمة بثوبها المطرز وقد أسدلت الكوفية على كتفيها وزينت جيدها ومعصميها بالحلي، تستقبل المتوافدين للفرح الذي أُبعد صاحبه عنه، حاضرة بجسدها فيما ذهنها وقلبها معلقان في القاهرة.
تقول: "صحيح أنا موجودة بين جموع المهنئين بسلامة جاد، ولكن عقلي وقلبي معاه هناك في المنفى، يسأل أبنائي عن سبب شرودي وهم لا يعلمون أنني أشعر ببعض القهر".
حين بدأت ترشح أخبار الصفقة، وردها أن اسم جاد مدون في قوائم الأسرى المنوي الإفراج عنهم، فقامت تضحك وتزغرد وتردد الأهازيج، وبدأت الاستعداد لاستقباله.
حضّرت له المكسرات وورق العنب، وأعدت طبخات كالسبانخ التي يحبها، والمقلوبة، وخزنت 12 دجاجة في الثلاجة، تريد أن تصنع له كل الطيبات التي حُرم منها في المعتقل.
كانت تعيش منذ نحو ربع قرن على أمل تحرره من سجن أُغلق عليه يوم التاسع من نيسان/أبريل 2001، وما كان ليبرحه تحت حكم بالمؤبد و17 عاماً، بينما كان يخبرها خلال الزيارات أنه لا يسعه الانتظار حتى يتحرر ويحتضنها ويجلس معها شهرًا بأكمله في المنزل لا يبرحه.
أيام واتضحت الصورة أكثر، مالت إلى القتامة لما تبين أن اسم جاد مدرج على قائمة المحررين المبعدين إلى الخارج، فانقلب الفرح إلى حزن في نفس أمه، التي تذكر أنها صكت وجهها وغرقت في موجة بكاء حين علمت بالأمر.
لامها زوجها وأبناؤها لإفراطها في الحزن على الإبعاد بدلاً من الفرح بالتحرير، فكانت تجيب إلى أين سيأخذون فلذة كبدها الذي انتظرت خروجه وعودته 24 عاماً قضتها بين الرجاء والأمل.
تملكتها خشية أن لا تلتقي جاد مجدداً في منفاه، وهي ما انفكت تسأل الله الفرج له قبل أن يصيبها أي مكروه، وتردد: "كم أود أن أراه حراً وأحتضنه ومن ثم أموت؟ فما نفع العمر بعد ذلك؟".
تخطت كريمة ما أصابها من كدر، وبدأت تستسيغ الإبعاد على البقاء في السجن، ورأت في ذلك أمراً يستحق أن تقام له الأفراح، مستعينة بقول جاد: "أن أخرج وأنام على البلاط أحب إلي من البقاء في السجن يوماً".
ذُهلت من الهيئة التي خرج بها جاد من معتقلات الاحتلال، فأنكرته عندما شاهدته في أول فيديو نُشر لوصول حافلات المحررين المبعدين إلى مصر، ولو صادفته في الطريق لما عرفته.
تروي كريمة أنه عندما نزل الأسرى من الحافلة في مصر، أشار أبناؤها إلى أحدهم على أنه جاد، ولكن لم أتعرف إليه، قالوا لي بلى إنه هو، فقلت أي واحد هو؟.
وتقول: لم أتعرف إليه، يفتحون على هواتفهم صورًا التقطت بعد تحريره وأنا مصرة على إنكاره، لم يكن جاد الذي رأيته في آخر زيارة في سجن عوفر قبل أسبوعين من السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
فقد 35 كيلوغرامًا من وزنه، وأصبحت عيناه غائرتين في وجهه وشابت ذقنه وفقد جزءًا من أسنانه، أهذا جاد؟ كانت تتساءل أمه مستنكرة هيئته التي خرج بها بعد ما واجهه مع الأسرى من قمع وتجويع على مدار الأشهر الخمسة عشر الأخيرة.
والأيام الثلاثة الأخيرة التي سبقت الإفراج خصص لها الاحتلال عقوبات أقسى، فمُنع خلالها الطعام، وأُجبر الأسرى على خلع ملابسهم، وتم شد وثاق قيودهم، كما روى جاد لعائلته في اتصال مرئي مبرزاً رسغ يده اليمنى وقد ظهر عليها ما يؤكد صحة ذلك.
أوفدت العائلة شقيق جاد وزوجته إلى مصر كي يرعيانه في أول أيام حريته، وحملا طلباً من الأهل والأصدقاء بأن يهتم بغذائه ويتأكد من استعادة صحته وعافيته استعداداً لاستقبال والديه حين تستقر وجهة الإبعاد.
أما جاد فطلب من والديه في أول اتصال مرئي الوقوف حتى يتيقن أنهما ما زالا يتمتعان بصحة جيدة ولم يفقدا القدرة على المشي ليسافرا إليه، فقامت أمه وتمايلت رقصاً أمام الكاميرا، فضحك وراح هو يتمايل.
تتوق كريمة ليتمايلا معًا في حفل زفافه الذي لن تنتظر طويلاً لإقامته، أصبح في الثامنة والأربعين، وحين اعتُقل كان عمر ابنة أخيه شهرين، وها هي قد تزوجت، وأبناء شقيقه كانوا أطفالاً حين دخل السجن وتزوجوا ورُزقوا بالأبناء.
تقول مازحة، إنها ستختار له زوجة مصرية إن استقر في القاهرة، أو تركية إن تقرر إبعاده إلى هناك، وتستدرك: "أريده أن يتزوج بفلسطينية تحمل هوية فلسطينية كي تأتي هنا وتجلب أبناءه وأراهم".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها