مع استمرار تصعيد الاحتلال الإسرائيلي جرائمه في الضفة الغربية وبعد المجازر والمحارق التي ارتُكبت في غزة، أصبح واضحاً أن الاحتلال يسعى إلى فرض وقائع جديدة على الأرض تُفشل أي جهود لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ومتواصلة جغرافيًا. هذا التصعيد يضعنا أمام تحدٍ تاريخي لكنه يشكّل فرصة لإعادة صياغة رؤيتنا الوطنية الشاملة، خاصة في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، وعلى رأسها السياسات الأميركية في ظل ولاية ترامب الثانية.
- جرائم الاحتلال واستراتيجية الهيمنة
الاحتلال الإسرائيلي، مدعوماً بالدعم الأميركي المطلق، يعزز مشاريعه التوسعية عبر تصعيد هجماته على شعبنا ومضاعفة الحواجز والاقتحامات. هذه السياسات ليست عشوائية، بل تأتي ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى تكريس نظام الكانتونات وتقويض أي فرصة لسيادة فلسطينية. في هذا السياق، يتجلى الانحياز الأميركي بشكل فاضح، حيث دعمت تصريحات المندوبة الجديدة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مزاعم إسرائيلية تستند إلى حقوق دينية يهودية توراتية مزعومة في كامل أراضي الضفة الغربية إضافة إلى تصريحات سفير ترامب لدى تل أبيب بنفي وجود شعب فلسطيني، هذه المواقف وغيرها تعكس التماهي مع اليمين الصهيوني المتطرف.
وتتزامن هذه المواقف مع خطوات ميدانية مثل تشجيع الاستيطان وتمهيد الضم التدريجي وفق ما قالت عنه الملياردية اليهودية مريام أديلسون بأنه وعد من ترامب إثر تبرعها لحملته بمبلغ مئة مليون دولار. إدارة ترامب تدعم هذه السياسات بشكل مباشر عبر قراراتها السابقة والحالية، مثل إعلان القدس عاصمة لإسرائيل واستمرار الضغط لفرض حلول أحادية تتماشى مع رؤيتها لصفقة القرن وقيام ترامب برفع العقوبات عن المستوطنين مما يجعل إرهابهم وفق الصحافة الإسرائيلية، مما أيضًا ومن جهةٍ أخرى يُشكل تهديدًا للأمن القومي للأردن الشقيق.
- الفرصة الوطنية في مواجهة السياسات الأميركية والإسرائيلية
أمام هذا الواقع، لا يمكن للفلسطينيين الاستمرار في نهج الانتظار أو الاعتماد على تحركات دبلوماسية متفرقة أو ردود أفعال. بل يجب أن نرى في اللحظة الراهنة فرصة لإعادة صياغة استراتيجيتنا الوطنية الشاملة والمتكاملة. الوحدة الوطنية الفلسطينية الواسعة القائمة على استقلالية القرار هي المفتاح لمواجهة هذه التحديات، إذ لا يمكن التصدي للمشاريع الإسرائيلية والأميركية دون موقف وطني موحّد يعكس إرادة شعبنا.
- لقاء وطني واسع
وفي هذا الإطار، أرى ضرورة لعقد لقاء وطني واسع وشامل يدعو إليه سيادة الرئيس محمود عباس بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين. هذا اللقاء يجب أن يشمل كافة الفصائل الوطنية والمستقلين والقطاعات الشعبية والأهلية، خاصةً فئة الشباب. والهدف ليس فقط توحيد الصفوف، بل رسم سياسات وطنية فاعلة تواكب المتغيرات وتواجه الضغوط الأميركية والإسرائيلية يتحمل الكل الوطني فيها مسوؤلياته.
- سياسات ترامب وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
ترامب، الذي يسعى إلى تعزيز الهيمنة وتفوق الدور الإسرائيلي، يستغل التحولات الإقليمية لتحقيق أهدافه واعتبار قضيتنا السياسية قضية إنسانية تحتاج إلى مساعدات وهبات ومشاريع سياحية في غزة. سياساته في ولايته الثانية، ستكون امتداداً لنهجه في الدورة الأولى ربما مع تغيرات طفيفة براغماتية غير عقائدية، تُظهر تصعيداً واضحاً في دعم إسرائيل على حساب شعبنا وقضيته الوطنية السياسية من خلال:
- أولاً، تعزيز التطبيع الإقليمي الإبراهيمي، حيث تسعى واشنطن لتوسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل عبر ضغوط اقتصادية وسياسية على دول مثل السعودية ولبنان وسوريا، مما يضعف الموقف الفلسطيني.
- ثانيًا: تقويض فكرة الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمستقلة والمتواصلة عبر دعم الاستيطان وتوسيعه والضم التدريجي، من خلال تحويل ما يتبقى من أراضي الضفة الغربية إلى كانتونات ومعازل متناثرة، وفصل غزة ككيان مستقل مما يجعل حلم الدولة الفلسطينية المتواصلة غير قابل للتحقيق.
- ترسيخ الانقسام الداخلي، خطر على المشروع الوطني
تأتي محاولات "حماس" للتواصل مع الإدارة الأميركية، بمعزل عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد وصاحبة الولاية القانونية والسياسية، والتي تحتاج إلى سرعة استنهاض أوضاعها وهياكلها المختلفة وتعزيز أوسع مشاركة ديمقراطية فيها بما يتوافق مع مكانتها بدءً من إعادة تشكيل/انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني تتبعه عضوية المجلس المركزي وانتخاب اللجنة التنفيذية وفق اللوائح الناظمة، في وقت حساس يتطلب تفعيل كل الأطر وتوحيد الجهود الوطنية وتنفيذ اتفاق بكين لمواجهة سياسات الاحتلال ومخططات واشنطن، على أن يتبع ذلك إتاحة إجراء انتخابات عامة تعيد للشعب سلطاته في اختيار قيادته وإقرار التشريعات اللازمة وممارسة دوره الرقابي وفق الأنظمة ووثيقة إعلان الاستقلال. المحاولات لاسترضاء الأميركان التي أشرت لها لا تخدم سوى الأجندات التي تسعى لترسيخ الانقسام الفلسطيني والتي سيستفيد منها مختلف الأطراف السياسية الصهيونية، وتفتح المجال للولايات المتحدة للعمل على جبهتين، الأولى مع منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بالرغم من أنها ما زالت تعتبر وفق رؤيتهم "منظمة إرهابية" وفق القانون الأميركي، والثانية مع حركة حماس كطرف منفصل أيضًا باعتبارها "جهة إرهابية". وهذا قد يندرج في إطار سياسات الولايات المتحدة منذ بداية ما سمي بالربيع العربي التي تعاونت فيه مع حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وهو أمر درجت عليه سابقًا في أفغانستان وأخيرًا في السودان وسوريا.
هذا النهج إذا استمر، يعزز استراتيجيات الاحتلال والإدارة الأميركية لتجزئة القضية الفلسطينية، ويضعف وحدة المشروع الوطني القائم على وحدة الأرض والشعب والقضية. كما يشجع الأطراف الخارجية بما فيها الاتحاد الأوروبي الذي يغيب صوته عن ما يجري اليوم، على التعامل مع الفلسطينيين كأطراف متفرقة أو طرفين على الأقل وإيجاد حلول غير وطنية لما يسمى باليوم الثاني لغزة، وليس كشعب واحد يسعى إلى تحقيق الحرية والاستقلال الوطني على قاعدة إنهاء الاحتلال أولاً وممارسة حقنا بتقرير المصير.
- إعادة التموضع فلسطينياً
في مواجهة هذا التصعيد، لا بد من خطوات عملية تعكس إرادة الشعب الفلسطيني وضرورات اللحظة الراهنة ومن أهمها:
- أولاً، استنهاض دور حركة "فتح" باعتبارها العمود الفقري للحركة الوطنية، من خلال تعزيز الديمقراطية الداخلية وتجديد الأطر التنظيمية ووضوح هويتها وبرنامجها كحركة تحرر وطني تكافح من أجل دحر الاحتلال، بما يُساهم بالتوازي مع الإجراءات المطلوبة لتصويب أوضاع منظمة التحرير والارتقاء بدورها.
- ثانيًا: تعزيز المقاومة الشعبية، ولنا بذلك مثال الانتفاضة الكبرى، كما والدبلوماسية المقاومة وأشكال المقاطعة الدولية عبر استثمار القانون الدولي لاستمرار مقاضاة إسرائيل ولكشف الجرائم الإسرائيلية والانحياز الأميركي بما يُساهم في عزل سياساتها، ومع تعزيز بناء علاقات استراتيجية مع القوى الرسمية والشعبية الدولية التقدمية التي تدعم حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف.
- ثالثاً، رفض الانصياع للضغوط الأميركية حيث إن استرضاء واشنطن لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضغوطات علينا، وإلى ترسيخ الانقسام وفقدان استقلالية ووحدة القرار الوطني بشأن مقاومة الاحتلال.
- لحظة اختبار للإرادة الوطنية
اللحظة الراهنة هي لحظة اختبار للإرادة الوطنية الفلسطينية المستقلة. علينا أن نختار، إما أن نتوحد كقوة واحدة تواجه الاحتلال وفق رؤية للكفاح الوطني واضحة عقلانية تحظى باجماع الكل الفلسطيني، أو نترك الساحة مفتوحة لمزيد من العدوان والاستيطان والضم.
فالشعب الفلسطيني في غزة، الذي صمد ونهض اليوم كطائر الفينيق من المحارق والدمار لا يحتاج منا إلى المناظرات حول النصر أو الهزيمة. فكل شعبنا يدرك تمامًا أن الانقسام لم يخدم إلا الاحتلال، وأن الوحدة في إطار المنظمة هي المدخل الوحيد لتعزيز صمودنا وتحقيق أهدافنا الوطنية، وأن الاستعجال في استرضاء الأميركان للحوار معهم لا يخدم سوى مزيدًا من تجسيد الانقسام، كما أن الوقوع في وهم الخداع والنفاق السياسي الأميركي لن يخدم استقلالية القرار أو التقدم في رسم سياسات التحرر والاستقلال الوطني. فالتاريخ لن يرحم المترددين، والمستقبل لن ينتظر أحداً والتاريخ لا يقبل الفراغ.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها