أصبح الإعلام أداةً قوية في تشكيل الرأي العام وصياغة المواقف الاجتماعية والسياسية، ورغم الدور المهم الذي يلعبه الإعلام في توعية الجماهير وتوجيههم نحو قضايا حقوقية وإنسانية، إلا أنه في بعض الأحيان يتحول إلى سلاح ذو حدين، يتم توظيفه بطرق قد تكون مشوهة أو تساهم في إشعال الأزمات والصراعات. ومن الأمثلة البارزة على ذلك التغطية الإعلامية للقضايا الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة، حيث غالباً ما يتم استخدام الإعلام لتحقيق أجندات سياسية أو اقتصادية، متجاهلاً العواقب الإنسانية التي تعصف بالشعوب.
تعتبر قناة الجزيرة القطرية واحدة من أبرز وسائل الإعلام التي تلعب دوراً مهماً في المنطقة العربية والعالم، إذ تميزت بتغطيتها المكثفة للقضايا الفلسطينية، وخاصة الوضع في غزة. وهذه القناة، مثل غيرها من الكثير من وسائل الإعلام، قد تتبنى مواقف منحازة أو مشوهة، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق وتضليل الرأي العام.
فيما يتعلق بغزة، اتّسمت تغطية القناة بانحياز واضح لحركة حماس، حيث افتقرت إلى الموضوعية في تناول الانقسام الفلسطيني بين حركتي "فتح وحماس"، وتجاهلت إلى حد كبير الإشارة إلى حكم الأمر الواقع الذي فرضته حماس على قطاع غزة عقب انقلاب دموي عام 2007، مما أدى إلى معاناة مستمرة لسكان القطاع. وبدلاً من تقديم تغطية متوازنة، انحرفت المعالجة الإعلامية نحو تبرير سيطرة حماس، متغاضية عن تحميلها المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذا الانقلاب والانقسام الذي أثقل كاهل الشعب الفلسطيني.
تتبنى قناة الجزيرة خطابات مثيرة للجدل في تناول قضايا أخرى، مثل الحملة الأمنية التي تنفذها اليوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مخيم جنين ضد الخارجين عن القانون. فبينما تسعى هذه الحملة إلى تعزيز الاستقرار وحماية الأمن الفلسطيني، تعرضها الجزيرة في بعض التقارير بشكل يوحي بأنها حملات قمعية ضد الشعب الفلسطيني. ويساهم ذلك التوجه الإعلامي في زيادة الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية، ويُظهر الحملة على أنها حرب ضد المواطنين الفلسطينيين، مما يساهم في تغذية التوترات داخل المجتمع.
تتّسم تغطية قناة الجزيرة بازدواجية واضحة في تناول القضايا الإقليمية، إذ تبدي موقفاً حاداً ضد التدخل الإيراني في سوريا، لكنها تتجاهل بدرجة كبيرة دور إيران المشبوه في فلسطين ودعمها للتيارات لإثارة القلائل ولتعزيز نفوذها على حساب منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ويعكس هذا التناقض تأثير الأجندات السياسية لدولة قطر، الدائرة في فلك الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتماشى تغطية القناة القطرية مع تحالفات إقليمية معقدة، مما يُظهر تحيزاً لصالح حركات فلسطينية مرتبطة بالمصالح الإيرانية، في تناقض مع سياستها الإعلامية المعلنة في الساحة السورية على الأقل.
من خلال هذا التناول الإعلامي، يتّضح كيف أن وسائل الإعلام يمكن أن تتحول إلى أداة لتحقيق مصالح سياسية أو إقليمية، حتى على حساب الحقائق والواقع. ولكن المشكلة تتجاوز مجرد التحيز السياسي؛ إذ أن الإعلام، عندما يُستخدم بطرق مشوهة، يساهم في تدمير المعنويات الإنسانية وتشويه الحقائق.
إن الصور والكلمات التي تُنقل عبر وسائل الإعلام قد تترك آثاراً أشد من الأسلحة العسكرية، حيث أنها تساهم في نشر الأكاذيب وخلق "بطولات وهمية" لا علاقة لها بالواقع، مما يتيح لإسرائيل وللولايات المتحدة تقديم الذرائع لاستكمال مخططاتها في الأرض الفلسطينية، كما يوفر حجة للمجتمع الدولي، خاصة الغربي، لإشاحة النظر عن هذه المخططات.
يتضح في الختام، أن الإعلام، مثل قناة الجزيرة، أصبح في كثير من الأحيان أداة لتنفيذ أجندات القوى السياسية الكبرى، فالهدف الأساسي يبدو متمثلاً في إضعاف السيادة الوطنية وتقويض القوة الداخلية الفلسطينية، بما يحوّل القضية الفلسطينية إلى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الكبرى التي تتنافس لملء الفراغ، وإعادة رسم الحدود في المنطقة برمّتها بما يخدم مصالحها الخاصة. وفي ظل هذا الواقع، يتم تهميش إرادة الشعوب وحقوقها، ليصبح الإعلام وسيلة لتعزيز هيمنة الدول الكبرى، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات وإشعال صراعات جديدة قد تستمر لسنوات طويلة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها