النظام الأساسي الفلسطيني كفل للإنسان والنقابة والحزب والمنابر الإعلامية والثقافية والتربوية والجامعات والمعاهد والطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية حرية الرأي والرأي الآخر، والتعبير والتظاهر والاعتصام، والحق في انتخاب ممثليه على المستويات المختلفة. وفي السياق كفل لوسائل الإعلام العاملة على الأرض الفلسطينية حرية العمل والنشر ونقل الأخبار وتداول المعلومات، وتغطية التطورات والفعاليات والأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية الفنية والدينية والأمنية، دون التعرض لها.
ورغم أن النظام الأساسي "الدستور المعمول به حتى الآن" في دولة فلسطين المحتلة لم يفصل بين وسائل الإعلام المحلية ووسائل الإعلام العربية والدولية، ما ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه فيما يخص الحرية الكاملة، حيث أخذ المشرع الفلسطيني واقع التطور الهائل في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات، وكون العالم أمسى قرية صغيرة تنساب فيه المعلومات كسيل متدفق، إلا أن التفسيرات القانونية اللاحقة من قبل جهات الاختصاص لم تسمح بالقدح والذم والتحريض والتجريم والتكفير والتخوين، وتزوير الحقائق، لأن مثل هذا السلوك له تبعات قانونية، ويحاكم عليه كل من ارتكبه، وهنا تتداخل المواد ببعضها البعض، ما يسمح للسلطة التنفيذية باتخاذ ما يلزم من قرارات في ظل غياب السلطة التشريعية.
وارتباطًا بما تقدم، فإن ما اتخذته اللجنة الوزارية الثلاثية، المكونة من وزارات الثقافة والاتصالات والأوقاف، بإغلاق مكتب "الجزيرة"، وتجميد أعماله لحين تصويب مكانته القانونية، مشروع وخطوة في الاتجاه الصحيح. لأنها استفادت من التداخل وعدم الفصل الواضح بين المواد القانونية وتفسيراتها. رغم أن قرارها لن يتمكن من إغلاق بوق قناة "الجزيرة"، ولا استهدافها للسلطة والحكومة والشعب الفلسطيني، فالمخدوعين بها يمكن أن يمدوها بأشرطة فيديو من كل بقعة في أراضي الدولة الفلسطينية. كما أنها تستطيع الحصول على أشرطة فيديو من خلال أجهزة الهاتف الحديثة، ونقل حي للعديد من الفعاليات من خلال قنوات أخرى تتعاون معها.
ولكن قيمة الإجراء وأهميته، تكمن في أنه بمثابة قرصة أذن للقائمين على القناة، مع أن خلفياتهم معروفة منذ أسسوا قناتهم في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1996 بالعداء للسلطة والشعب الفلسطيني من خلال دس السم في عسل أخبارها، وبدورها الرئيس في تعميق عملية التطبيع المجاني مع دولة العدو الإسرائيلي، والترويج للحضور الإسرائيلي في الوسط الإعلامي العربي، وكسر قاعدة المقاطعة التاريخية مع دولة التطهير العرقي الإسرائيلية. وعليه لن يراجعوا خيارهم ومرتكزات انطلاقة وأهداف القناة السياسية والإعلامية، حتى لو تم اللقاء مع هيئة التحرير ومديرها العام وأصحاب النفوذ المؤسسين لها. لأن الوظيفة الإعلامية السياسية لها مرتبطة بالأجندة الإسرائيلية الأميركية. ولبوسها الثوب العربي القطري لم يكن وليد الصدفة، بل مقصودًا وهادفًا لتحقيق ما تقدم من أهداف.
ولا يخفى على أحد، أن العديد من المسؤولين الفلسطينيين التقوا مع القائمين عليها، وسعوا للفت نظرهم للأخطار التي تتهدد القضية الفلسطينية والمشروع الوطني والكيانية الوليدة، ورفعوا ضدها عددًا من القضايا أمام المحاكم، لكن كل ذلك لم يثني القناة عن مواصلة خيارها ونهجها المعادي، لذا ينطبق عليهم المثل الشعبي "أذن من طين، وأذن من عجين"، وذهبت الحوارات مع الريح، ولم تجدِ نفعًا. ومع ذلك أُعطيت إدارتها الفرصة تلو الأخرى لتصويب مسارها، والتخفيف من سمومها، ودس الأسافين، والكف عن الانحياز الأعمى لإسرائيل وجماعة الإخوان المسلمين، والتوقف عن التحريض والتشهير ولي عنق الحقيقة في نقل الأخبار المشوهة. بيد أنها لم تتراجع قيد أنملة عن خيارها التخريبي.
ولعلم بعض من استنكروا قرار اللجنة الوزارية الفلسطينية من النخب السياسية، لم يدركوا أن اللجنة وقبلها القيادة الفلسطينية عمومًا يعون جيدًا طبيعة المرحلة التاريخية التي يتسم بها عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وفضائه الواسع. فضلاً عن أن قرارها تجاه قناة الجزيرة لن يغلق باب حرية الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير والإعلام، لكنها شاءت الترشيد من خلال التضييق على عمليات التحريض وتشويه الحقائق، وقلبها رأسًا على عقب ضد القيادة والمشروع الوطني والمصالح العليا للشعب العربي الفلسطيني، لعلها تنجح في التصويب النسبي لنهج قناة الجزيرة القطرية وشركائها الإسرائيليين والأميركيين.
مع أني أشك في تحقيق هذا الهدف، ومن تابع خلال الأيام القليلة الماضية مواقف وأخبار وبرامج فضائية الجزيرة، لاحظ أنها ضاعفت من تحريضها على القيادة ووحدة ومصالح الشعب العليا، ما يعني أنها لن تصوب وضعها القانوني ولا آليات وبرامج عملها ونهجها السياسي والإعلامي، وأيًّا كانت النتائج فإن قرار اللجنة الوزارية الفلسطينية كان ضروريًا ومشروعًا ومفهومًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها