عندما كان ياسر عرفات يضع رأسه بين يديه كان يستقبل في رأسه هموم فلسطين والأمة جمعاء، فلم يكن ليفصل بين القضية الفلسطينية -وان أعطاها الأولوية دوما- وبين الأمة العربية والإسلامية وجماهيرها.

ولطالما ردد القائد العروبي الاسلامي الفتحوي خالد الحسن أن القاطرة الفلسطينية لا تسير بدون القطار العربي مكرسا العمق الحضاري للثورة الفلسطينية وحركة فتح .

أما الشهيد الصارم والكلمة المدفع صلاح خلف فانه ومن أعماق قلبه كان ينشد للأمة ويسابق الريح لتسمع كلماته من الشام لبغداد ومن يمن لتطوان حيث تتموضع فلسطين دائما في قلوب الجماهير، وهذا هو ديدن حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح.

فتح «الحركة»

انطقت فتح (حركة) حيث يجتمع بين جنباتها التيار العام للشعب بكافة فئاته، الذي ينزع كل أردية التحزب البغيضة والإيديولوجية الحصرية ليتكرس لخدمة الشعب وقضيته ، ليتكرس لفلسطين لا لخدمة الفكرة الواسعة الممتدة والخيالية في آن (دكتاتورية البروليتاريا، انتصار الطبقة العاملة، قيام الخلافة الإسلامية ، تحقيق الوحدة العربية الفورية.....)

وهي حركة وليست حزبا (ايديولوجيا) كما هو حالة منظمة «حماس» او منظمات اليسار، وان لم تكن الحزبية يوما عيبا فان التعصب نشأ في العصر الحديث في الإطار الحزبي (غير الديمقراطي) حيث تصارعت الأفكار الثلاث الكبرى في بداية القرن العشرين وهي الاشتراكية والقومية والدينية ففشلت جميعها لأنها تعارضت دون رغبة بالالتقاء، وتصارعت في ظن شبه أكيد أنها مكتملة بذاتها فقط، ما بدا ومع الصعود العربي الحديث انها أخطأت من حيث ظنت (الحصرية) و(الحصانة) والاكتفاء الذاتي و(الشمولية)

وها هي هذه الأفكار تعود اليوم في عباءة جديدة حيث فارقت جميعها الظنون وتدثرت بعباءة الديمقراطية والتعددية والمدنية التي رفضتها تلك الأحزاب جميعا فيما سبق تحت نظريات دكتاتورية البروليتاريا أو المستبد العادل أو الخلافة أو الحزب القائد أو حزب القائد.

وتكشف للأمة وللمتنورين في هذه الأحزاب مدى محدودية الفكر عامة مهما كان منبعه، كما ظهر لها الحاجة الملحاحة لكل فكر اوإيديولوجية أن تأخذ من الأخرى في إطار منفتح وسياق متصل ورغبة في التطور والإثراء.

فلسطين جامعة النقائض

منذ البداية وحتى اليوم وحركة فتح لا تجمد ولا تتحيز ولا تقصي ولا تغتاظ من نجاحات الآخرين، بل كانت مرحابة دوما منفتحة أبدا بحيث انها احتملت في داخلها النقائص تلك التي عاشت متحاورة ومتجاورة، متحاربة حينا ومتصالحة حينا يحدها من الجهات الست قضية فلسطين .

فحيثما اختلفت وصعدت أو حطت رحالها كان الجامع لنقائض أو تيارات أو اجتهادات حركة فتح هو فلسطين، وليس كأولئك الذين وضعوا فلسطين على هامش مشروعهم الأكبر أو الشمولي فأصبحت ثانوية لا أساسية وفرعاً لا أصل.فتح الحركة حيوية وديمومة، أصالة وتغير دائم، وفتح الفكرة والخلق والسلوك كانت تنهض من عبق الشارع واغتراف المعاني الصاعدة من نهر الحضارة العربية الإسلامية وبالإسهامات المسيحية الشرقية، وبالانفتاح على الفكر والحضارة والثقافة الإنسانية عامة وهي بذلك أبرزت مفهوم (الوطنية) في السياق المحيط.

تختص وتركّز وتكرّس

إن فتح حركة (وطنية) من حيث انها (تختص) ومن حيث انها (تركّز) ومن حيث انها (تضع الأولوية)، انها ليست حركة اقليمية وانما قطرية وطنية في الفضاء العربي كما استلهمت ذلك اليوم كل الثورات العربية، ففي حين عمم الآخرون فكرهم وشرقوه أو غربوه، وحملوه ما لا يحتمل أو انقصوه، فان حركة فتح اختصت بفلسطين حيث هي الهدف أولا وما سواها من القضايا على أهميته يليها ويغذيها.

فلا قضية أفغانستان أو البوسنة أو العراق أو... من القضايا تتقدم على فلسطين وان كانت لا تهمل في الإطار الفتحوي العروبي والثوري العالمي حينما يضع ياسر عرفات رأسه بين يديه، ولكنها قضايا على أهميتها تأتي في سياق خدمة (الوطنية الفلسطينية) ذات الأولوية من جهة ومجال الاختصاص الفلسطيني من جهة ثانية.

كانت حركة فتح حركة وطنية لأنها (كرست)و (ركّزت) و(أضاءت) بشكل أساس على فلسطين من كافة الجوانب، وهل كان المطلوب من أي تنظيم فلسطيني أن يصرخ قائلا غير فلسطين؟ وهو (الفلسطيني)؟ وهل كان على الفلسطيني أن يحمل أعباء الثوار في العالم في نفس الميزان مع فلسطين؟! وبمعنى آخر ألم يكن الأجدر بكل صاحب قضية ان يكرس ويركز ويضيء على قضيته أولا قبل ان يضع في جعبته قضايا العالم معا؟! وهذا ما فعلته حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح.وفي سياق وطنية الحركة دافعت طويلا عن استقلاليتها وحاربتها أنظمة وجهات عدة خسرت تلك الأنظمة وفازت فتح الاستقلالية في عمقها الوطني وامتدادها في محيطها الشاسع.

تحرير فلسطين محور الفكرة

فتح الحركة الوطنية الفلسطينية كفكر هي حركة تحرر بمعنى أن شغلها الشاغل كهدف وفكرة محورية محركة للفعل هو التحرير، وتحديدا تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، دولة مستقلة ثم دولة ديمقراطية مدنية على كامل التراب الفلسطيني.

إن التحرير الوطني أو القومي هو كفاح للتخلص من العبودية للمستعمر واحتلال الأرض والإنسان ، وفي هذا السياق اقتدت الثورة الفلسطينية و حركة فتح بتجارب الشعوب حتى اكتشفت طريقها الخاص.

فمن حيث هي اقتدت بالثورة الجزائرية والصينية والفيتنامية والروسية والكورية والكوبية في حرب الشعب طويلة الأمد أو النفس وجدت في مراحل متقدمة واثر نضالات بطولية تحسب لمصلحة فلسطين وفتح، وجدت أن المسار النضالي التونسي قابل للتأسي، كما وجدت في تجارب الثورات الأخرى مثل تجربة جنوب افريقيا إمكانية للاستفادة منها والاحتذاء ببعض جوانبها إلى أن اكتشفت تميز تجربتها ونضالها وقدرتها الذاتية على الابداع والتجدد.

ان حركة فتح التحرير أصّلت الكيانية للشعب الفلسطيني تلك التي حاول الكثيرون اسقاطها أو هدمها ابتداء من العدو الصهيوني الذي ما زال ينكر هذه الكيانية والشعب وقيام الدولة، إلى هذا النظام أو ذاك، الا ان فتح أركبتها مركب الصعود في عربة منظمة التحرير الفلسطينية، التي قامت ونامت وقويت وضعفت، ولكنها حتى في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية ، وفي ظل نزاعات عكست نفسها علينا ومن خلال التنظيمات بقيت هي الدار وهي الحامي وهي مقر الكيانية للفلسطينيين في الداخل والخارج.