في غزة أطفال ولدوا كبارًا، هي الأقدار أن يكون الأطفال هم من يحمل هموم الحياة عندما أجبرت ظروف الحرب، اختفاء الكبار. الآباء والأمهات بعضهم أو جلهم استشهدوا في تلك الحرب الملعونة. فقدت الأسر في معظمها معيلها أو مصدر رزقها بسبب تعطل الحياة.
الغزيون فقدوا مصادر رزقهم، وسكنهم، وتعدد النزوح من مكان إلى آخر، مما تسبب في المآسي بما لا يتصوره العقل البشري. والنتائج بسبب ذلك أفرزت معطيات أخذ يتحملها أطفال غزة. في ظل هذه المعطيات يصادف مرور ذكرى "اليوم العالمي للطفولة".
وأظن أن العالم نسي أن في غزة يوجد أطفال يحلمون في حياة سعيدة، تختلف في مسارها ونتائجها عما يحدث. ففي كل العالم يحصل الأطفال على الحماية والرعاية والتعليم والغذاء المجاني، والعلاج من المرض دون عناء أو تكلفة. أما في غزة فقد تم اغتيال الحلم، فترك الأطفال أحلامهم وفرحهم وسرورهم، وتعليمهم، وغذائهم، وعلاجهم ليتصدروا هم الحياة في توفير ما يمكنهم وأسرهم من العيش في ظل الحرب.
الأطفال في غزة ينطلقون في كل صباح إما ليوفروا بعض لترات من الماء، او لتوفير وجبة غذائية توزعها بعض المؤسسات الإغاثية العاملة في القطاع لأسرهم لأنه لم يعد هناك إمكانية لشراء المواد الإغاثية التي هي أصلاً مفقودة. أو لعلهم يبحثون عن بعض أنواع من شوادر بلاستيكية تقيهم المطر أو تأويهم في منامهم.
لم يعد هناك مدارس يذهبون إليها لتلقي تعليمهم، لقد سوت القذائف في الأرض، المدارس والمساكن، وسويت المؤسسات العامة والخاصة والمؤسسات الصحية، والجامعات. لقد استهدف حق التعليم للأطفال في غزة فلم يعودوا يذهبون إليها، لأن التجهيل هو الهدف الذي يريده العدو لأطفال غزة. كل الذي استهدف كان له تأثيره في القطاع، ولم يعد هناك مأوى للعائلات بعد أن هدمت بيوتهم، وانتشرت الأمراض بعدما منع عنهم الدواء، وانتشرت المجاعة بسبب الحصار ومنع تزويد القطاع بالغذاء. هنا في غزة تم اغتيال الإنسانيّة.
فمع كل صباح كان هؤلاء يصطفون في الطابور الصباحي في المدرسة يحيون العلم، ويقرأون سورة الفاتحة ويلقون الأناشيد الصباحية، ثم يدخلون الصفوف ويلتقون معلميهم لتلقي تعليمهم. لقد حلت الحرب على غزة لتستبدل الصفوف المدرسية، بصفوف وطوابير طويلة أمام مصادر المياه الشحيحة أصلاً، أو موزعي الطعام، للحصول على بعض الماء والطعام.
كيف تتمحور هذه المتضادات في عقل الطفل الغزاوي الصغير، ليجد هذا الطفل نفسه أمام سلوكيات ومسؤوليات لم تكن يومًا من مفرداته، تحتاج إلى تقويم نفسي طويل ليمحو آثار تلك الذكريات الأليمة. وهو الذي يمضي أقرانه في كل العالم في الملاعب، ومراكز الترفيه، ومراكز حماية الطفولة.
هنا في غزة من حق هذا الطفل غدًا أن يتهم من أسقط حقه في التمتع بالطفولة، واغتال حقه في الحياة، من حقه أن يحاسب العالم على التقصير في تطبيق المبادئ التي أشبعتنا فيها مؤسسات حقوق الطفل إطراءً، وسقطت عند أول زاوية ليصدم فيها العالم.
في غزة هناك أطفال مثل كل أطفال العالم يفرحون، ويبكون، ويخافون. يفرحون ويضحكون وهم يلعبون على آثار الخراب والدمار، ربما تكون هذه المباني التي سويت في الأرض بيوتهم، وربما تكون مدارسهم، فرغم حزنهم يجدون مكان للفرح قليلاً ولكنهم يألمون. إنهم يخافون وكيف لا يفزعون من أصوات المدافع وأزيز الطائرات، وطلقات الرصاصات. إنهم يعيشون الحسرة والألم والفرح الممزوج بكل هذا الذي صنعه التاريخ لهم.
شاءت الأقدار أن يعيش أطفال غزة كبارًا، ولكنهم لن ينسون.
لعل أهم بنك أهداف العدو في هذه الحرب هو النيل من الأطفال الفلسطينين، لأنهم أمل الغد، لأن العدو يخافهم فعمل فيهم قتلا هم وأمهاتهم، هذه كانت وما زالت بنك أهداف العدو. هذه الحرب أهم سماتها أن جيشًا يعمل بكل قوته العسكرية بين المدنيين العزل فلا جيش يقابله، فالحرب تنعقد من طرف واحد، الجيش الإسرائيلي بعتاده وطائراته واستخباراته في هذا الملعب . فكان أكثر من %70 من ضحايا الحرب هم من الأطفال وأمهاتهم. لقد كانت هذه الضحايا من الأطفال التي رفرفت بأجنحتها إلى العلا، هدايا الجنود الإسرائيليين إلى أحبائهم وزوجاتهم، وإلى رؤساء العالم الذي شاركوهم تلك المذبحة، ووقفوا صامتين أمام تلك المجازر، ولم يقوموا بايقافها إلى اليوم.
أطفال فلسطين في غزة يموتون اليوم جوعًا وعطشًا وقهرًا، على مشهد ومرأى هذا العالم المتخاذل، ولا يحرك فيهم ساكنًا. لقد ماتت الضمائر وصمت الأذان، هذا هو الكفر بعينه لا يريدون أن يسمعوا صرخات وأنين أطفال غزة. ولكنهم سيحاسبون، لن تذهب دماء الأبرياء عبثًا لله درك يا غزة، ولو أن القرآن ما زال ينزل على الأرض، لكنتم أول من ذكر محارقهم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها