الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

لقد اختلطت علينا المشاعر والأحاسيس بين فرحة اللقاء والندم والحزن على أرضنا وخاصة والدي ووالدتي فقد كانت دموعهم متحجّرة في أعينهم ولم أستطع قراءة ما يشعرون به، ولكن مرّت أيام تواجدنا في فلسطين كما يمرّ الطيف. أوقات صفاء وانتماء وكانت الأيام جميلة والسهرات طويلة باستقبال الناس من مختلف القرى المجاورة لبيت عمي.
وكان هناك مجالس للرجال وأخرى للنساء، وللأسف أو لسوء الحظ كان من ضيوف أبناء عمي شخص وهو من قرية قريبة ومعروف عنه أنه يعمل مع اليهود وله أبناء يخدمون مع الجيش الصهيوني، ووقتها لم يتسنّ لأيّ من أبناء العم تحذيرنا أو لفت نظرنا إلى هذا الشخص الذي لا يُؤتمن على شيء.. وبطبيعة الحال، وقتها والدي كان في عمر الخامسة والثمانين، وكان يتكلّم على سجيّته بكل عفوية عمّا حصل معه أثناء الاجتياح وعن بطولات شبابنا والتصدّي لليهود في بيروت. 
كان هذا الشخص المتعاون مع الصهاينة كلما سأل والدي عن شيء أجابه والدي ببراءة وبساطة.. 
وقد أبلغ رؤساءه اليهود بكل تفاصيل الحديث، وطبعا هو كان يعرف أننا كنا خمسة أفراد مع الوالد، وكنت أنا أكبر شقيقاتي، وكان لي خالان وإخوان منهم من يسكن في مدينة الناصرة ومنهم من يسكن في حيفا وعكا، وقد زرنا جميع الأقارب وذهبنا إلى طبريا والقدس و"تل أبيب"، ولم نترك قرية أو مدينة فلسطينية إلا وذهبنا إليها خلال زيارتنا إلى فلسطين. 
بعد أيام، ذهب والدي مع عمي إلى مدينة الناصرة حيث توجد هناك دار البلدية ومعظم المؤسسات الحكومية ومكاتب المخابرات وطلب والدي منهم سحب أوراق ملكية أراضيه المُسجّلة رسميا في الدوائر العقارية منذ زمن الانتداب البريطاني أي ما قبل النكبة بوقت وبزمن طويل، ولكن جاءه الردّ بالرفض أو عليه البقاء ليباشر شخصيا متابعة أراضيه وإلا سيبقى الحال على ما هو عليه، فهم يعتبرونها أرض مشاع لهم ويستعملونها لرعي مواشيهم.
بعد مرور عدة أيام ونحن ننتقل من بلدة إلى آخر لنتعرف على بلادنا ومناظرها الخلابة والتقدّم العمراني الكبير للمُغتصب الذي يعتبرها أرضه.. فقد مسح أراضي زراعية كثيرة وحوّلها إلى بقع سكنية أو أماكن سياحية كمستعمرات لهم. وبذلك قاموا بمحو معظم المعالم الأصيلة لبلادنا وحوّلوها إلى ما كانوا يرغبون به، فأصبحت تشبه بلاد الإفرنج مع تطورها العمراني وتحديث الموانئ التجارية والأماكن السياحية في محاولة لإخفاء الماضي وذلك لاستقبال السياح الأجانب من كل أنحاء العالم.
ولم يطل الوقت حتى قاموا باستدعائي إلى التحقيق بناء على رغبة العميل وما أوصله عنا.. وذهبت مع ابن عمي إلى الناصرة حيث مكتب المخابرات، وكان أول لقاء لي مع المحقق ديفيد وهو يهودي عربي ولم أعد أذكر إذا كان من المغرب العربي أو من لبنان من منطقة وادي أبو جميل، وهي منطقة في قلب بيروت، وكان بها حي قديم يُعرف قبل الحرب الأهلية اللبنانية بأنه الحي اليهودي، حيث كان يسكنه عدد كبير من اليهود اللبنانيين. وخلال العقود الماضية، تغيرت تركيبة السكان في المنطقة، وتحوّلت تدريجيًّا إلى منطقة تجارية ومكاتب.. وادي أبو جميل يقع بالقرب من وسط بيروت، وبالرغم من التحوّلات التي شهدتها المنطقة عبر الزمن، لا يزال الاسم مرتبطًا بتاريخ الحي اليهودي في العاصمة اللبنانية.