تمر الذكرى الـ 20 لاستشهاد الرئيس الرمز ياسر عرفات، وقد حملت الذكرى هذا العام مزيدًا من الثقل في ظل التحديات والمتغيرات التي تواجه القضية الفلسطينية. وفتحت ضغط التهديدات الكبيرة والتطورات السياسية، لتجد فلسطين نفسها في مواجهة محاولات لتصفية حقوق شعبها. وفي ظل هذه الظروف الصعبة، يتجدد الحديث عن الحاجة إلى "رمز" يقود الشعب الفلسطيني نحو المستقبل، الرمز الذي ارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية بكل تفاصيلها: ياسر عرفات، الذي كان صانع ثورتها، قائدها، وحاميها.
- مولد ياسر عرفات وبداية مسيرته الثورية
وُلد ياسر عرفات في الرابع من أغسطس 1929 في القاهرة، حيث كانت عائلته تسكن في غزة، ولكن جذورها تعود إلى مدينة القدس. نشأ في مصر بعد أن انتقلت عائلته من غزة في فترة مبكرة، وعاش فيها معظم سنواته الأولى. ومع رحيل والدته، انتقل ياسر مع شقيقه الأصغر فتحي إلى القدس حيث عاشا مع أقاربهما. وفي القدس، بدأ ياسر يشهد عن كثب التوترات بين الفلسطينيين واليهود، ما شكّل جزءاً مهماً من تجربته الحياتية الأولى وأدّى إلى تشكّّل وعيه الوطني المبكر.
وقبل نكبة فلسطين عام 1948، عاد الياسر إلى القاهرة، حيث أكمل دراسته قبل أن ينخرط في الحياة السياسية والفكرية، ويبدأ في التفاعل مع القضية الفلسطينية. وفي القاهرة، كان يلتقي مع العديد من المنفيين الفلسطينيين، أبرزهم المفتي أمين الحسيني، الذي كان له تأثير كبير في تعزيز فكرة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
- الانتقال إلى الكويت وبداية الكفاح المسلح
في عام 1952، انتخب ياسر عرفات رئيسًا لاتحاد طلبة فلسطين في جامعة القاهرة، حيث بدأ يقيم علاقات مع شخصيات فلسطينية ثورية مثل صلاح خلف "أبو إياد"، ورفاقٍ آخرين مثل فاروق القدومي، وهو ما مهّد لتأسيس حركة "فتح". وفي عام 1957، قرّر الياسر مغادرة مصر متوجّهًا إلى الكويت للعمل في إحدى شركات البناء، لكن رغم الاستقرار المادي، ظل حلم العودة إلى فلسطين والنضال من أجل تحريرها يطارده. وفي الكويت، ومع رفاقه، بدأ عرفات في تنظيم خلايا سرية للعمل الثوري، وتمكّن من تأسيس حركة "فتح" التي كانت تهدف إلى تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلّح، مستفيدًا من الدعم المالي للجالية الفلسطينية في الخليج العربي.
وعندها تحوّلت حركة "فتح" لأول حركة فلسطينية تستخدم الكفاح المسلح كأداة رئيسية لتحقيق أهدافها الوطنية، وكان هذا التوجّه نقطة تحوّل هامة في تاريخ الثورة الفلسطينية، إذ انطلقت الحركة عام 1959، لتكون الشرارة التي أطلقت الثورة الفلسطينية المسلحة.
- رفض الدعم الحكومي العربي: تمويل الحركة الوليدة
رغم التحديات المالية التي واجهتها حركة "فتح"، إلا أن ياسر عرفات كان يرفض تلقي الدعم المالي من الأنظمة العربية، خشية أن يؤثر ذلك على استقلالية الحركة وقرارها السياسي. ولقد كان ياسر يعرف أن أي دعم حكومي قد يؤدي إلى تدخّلات سياسية تضر بالقضية الفلسطينية، لذا لجأ إلى تمويل الحركة من خلال تبرّعات الفلسطينيين في الشتات، وخاصة في الكويت، حيث وجد دعماً قوياً من قبل الجالية الفلسطينية هناك.
ومن خلال رحلاته المستمرة، التقى عرفات مع شخصيات فلسطينية وقيادات عربية أخرى، ومنها حامل الأمانة سيادة الرئيس محمود عباس "أبو مازن" في قطر، الذي أصبح أحد الداعمين الرئيسيين للحركة وساهم في تأمين الدعم المالي لها من رجال الأعمال الفلسطينيين.
- الانتقال إلى لبنان: مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني
في عام 1970، بدأ ياسر عرفات ورفاقه مرحلة جديدة من النضال بعد أن اتخذوا لبنان مقراً رئيسياً للقيادة الفلسطينية، إثر تزايد الضغوط العسكرية والسياسية في الأردن بعد ما يُعرف بأحداث أيلول الأسود، حيث تم إبعاد الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان بعد معركة شرسة مع الجيش الأردني. وفي لبنان، تحوّلت المخيمات الفلسطينية إلى مركز رئيسي للثوار الفلسطينيين، وأصبح ياسر عرفات رمزاً لقضية فلسطين في محيطٍ عربي ودولي مختلف.
وفي لبنان، أصبح ياسر عرفات القائد الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمكَّنت حركة "فتح" من بناء قاعدة عسكرية وسياسية في مختلف أنحاء لبنان. ومع تواجد القيادة الفلسطينية، أصبحت المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان مركزاً للعديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح لبنان نقطة انطلاق للعديد من العمليات العسكرية التي ساهمت في توجيه ضربات مؤلمة للعدو.
وبسبب الضربات الموجعة للعدو، كانت القيادة الفلسطينية عرضة للهجمات العسكرية الإسرائيلية، مثل عملية "السهم الفولاذي" عام 1982، التي كانت تهدف إلى تصفية القيادة الفلسطينية في لبنان. ورغم الحصار المفروض على بيروت، واصل ياسر عرفات قيادة المقاومة، حتى تم فرض اتفاق "فك الاشتباك" عام 1982 الذي أتاح للقيادة الفلسطينية مغادرة بيروت.
- إعلان الدولة الفلسطينية: لحظة تاريخية في مسيرة النضال
ظن البعض أن المقاومة الفلسطينية قد انهزمت بعد خروجها من لبنان لكن في الخامس عشر من نوفمبر 1988، ومن العاصمة الجزائرية، فاجأ ياسر عرفات العالم بإعلانه قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، في خطوة تاريخية أضافت بُعداً جديداً إلى مسار النضال الفلسطيني. جاء الإعلان بعد سنوات من المواجهات المستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي، ووسط ظروف صعبة كانت تمر بها القضية الفلسطينية، سواء على المستوى السياسي أو العسكري.
ولقد كان هذا الإعلان بمثابة تجسيد لحلم الفلسطينيين في إقامة دولةٍ ذات سيادة على أرضهم. وفي كلمة له أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، أعلن الياسر عن قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، مؤكداً على أن هذا الإعلان يمثّل إرادة الشعب الفلسطيني في التحرّر والاستقلال، وأنه لا بديل عن إقامة الدولة الفلسطينية على تراب فلسطين التاريخي. وقد تم ذلك في وقتٍ كانت فيه المنطقة تشهد تحولات كبيرة، بما في ذلك اندلاع انتفاضة الحجارة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (1987-1993)، التي أعطت زخماً جديداً لقضية الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية.
هذا الإعلان كان خطوة كبيرة نحو تثبيت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وقد لاقى تأييدًا واسعًا من الدول العربية، كما تبنته العديد من الدول في الأمم المتحدة، التي بدأت في الاعتراف بدولة فلسطين.
لكن إعلان الدولة الفلسطينية لم يكن مجرد إعلان سياسي؛ بل كان نقطة تحوّل في إعادة التأكيد على الهوية الفلسطينية على مستوى العالم، وكان منطلقًا لتحركات دبلوماسية فلسطينية على الساحة الدولية. وقد دفع هذا الإعلان، بالإضافة إلى التصعيد العسكري والسياسي الفلسطيني، المجتمع الدولي إلى التفكير بجدية أكبر في حل القضية الفلسطينية، وأدّى لاحقاً إلى خطوات مفصلية، خاصةً وأن الرئيس الشهيد ياسر عرفات كان يؤمن أن إعلان الدولة الفلسطينية هو البداية وليس النهاية؛ فهو كان يهدف إلى أن يتحقق الحلم الفلسطيني كاملاً، بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية وعاصمتها القدس.
- عملية السلام واتفاقات أوسلو: خطوة نحو التسوية
وفي بداية التسعينيات، بعد أن أصبح عرفات أحد الشخصيات البارزة في السياسة الدولية، قرّر أن يتخذ مساراً جديداً في النضال الفلسطيني، حيث دخلت منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، وأسفرت تلك المفاوضات عن توقيع "اتفاقية أوسلو" عام 1993، والتي شكلت خطوة نحو الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبموجب هذه الاتفاقات، تم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وتحققت نبوءة الياسر الذي قال لدى مغادرته لبنان أنه عائد إلى فلسطين.
وتزامن مع هذا الانتصار السياسي، تراجع كبير في عملية النضال العسكري، حيث تحوّلت السلطة الفلسطينية إلى مؤسسة حكم ذاتي تحكم أجزاء من الأراضي الفلسطينية. ورغم ذلك، استمر ياسر عرفات في السعي لتحقيق حلمه بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وهو الحلم الذي ظل يطارده حتى لحظاته الأخيرة.
- عرفات: رمز فلسطين وأيقونة المقاومة
يظل ياسر عرفات، الذي قضى حياته من أجل القضية الفلسطينية، أحد أبرز رموز المقاومة العربية والعالمية. فقد أصبح وجهه المميز، بلباسه الكوفيّة الشهيرة، رمزاً للنضال والمقاومة في العالم أجمع. عرفات، الذي قاد الشعب الفلسطيني من الخيم إلى المفاوضات الدولية، ومن الثورة المسلحة إلى السعي للحصول على اعتراف دولي بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، أصبح شخصية لا تُنسى في تاريخ العالم العربي والإسلامي.
وقد لا يكون ياسر عرفات قد حقّق حلمه في إقامة دولة فلسطينية كاملة في حياته، ولكن إرثه الثوري والسياسي ما زال حياً في قلوب الفلسطينيين والعرب، بل وفي ضمير الإنسانية التي لم تنسَ نضاله من أجل الحرية والعدالة.
- إرث ياسر عرفات
رحل ياسر عرفات عن عالمنا في الحادي عشر من نوفمبر 2004، لكن إرثه ما زال قائماً. تظل ذكراه حية في ذاكرة الشعب الفلسطيني، وستظل صورته وذكرياته جزءاً أساسياً من تاريخ النضال الفلسطيني والعربي. فرغم التحديات العديدة التي تمر بها القضية الفلسطينية اليوم، يبقى ياسر عرفات رمزاً لا يُمحى من الذاكرة، وهو الرجل الذي حوّل حلم العودة إلى حقيقة، وحوّل فلسطين إلى قضية العالم أجمع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها