أيًا كانت الأسباب والمسببات التي أوجدت المآسي الإنسانية في قطاع غزة، فلا يمكن لعقل بشري أن يصدق ما تراه عيناه أو تسمع به أذناه من مشاهد القتل والتدمير وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي حدثت  منذ بدء الحرب على قطاع غزة أولاً وتلك التي تحدث اليوم في جباليا غزة. المشهد الذي بدء منذ أكتوبر 2023 في قطاع غزة وتحت ما أطلق عليه الاحتلال عملية السيوف، وأعاد تسميته بعملية القيامة بتنسيب من الحكومة الإسرائيلية كانت اسمًا على مسمى. أينما سار الجيش بعملياته العسكرية في قطاع غزة قلب الأوضاع رأسًا على عقب، فالمشاهد تظهر للعيان الدمار والخراب الذي ساد فيه، حيث أن الشهداء بالمئات، والجرحى بالآلاف جلهم من الأطفال والنساء، وكثير منهم ارتقوا في قصف هدم المباني السكنية على رؤوسهم، وآخرون جراء استخدام الأسلحة الأخرى الفتاكة، فانقلبت الصورة إلى مشهد وكأنه يوم القيامة.

جباليا شمال قطاع غزة، وهي تقع في المدخل الشمال من نقطة إيرز الحدودية مع غلاف غزة. وبعد أن انتهت المرحلة الأولى من بسط سيطرة الجيش الإسرائيلي على كافة أنحاء القطاع، بدء بتنفيذ سياساته الجهنمية في غزة، وكانت أولى تلك المشاريع على ما يبدو فصل شمال غزة عن باقي القطاع وهو التهجير القسري لسكان جباليا والشمال من هذه المنطقة الحدودية لمنطقة الغلاف، وذلك على ما يبدو تطبيقًا لما يسمى "بخطة الجنرالات" التي تقدم بها الجنرال إيغوز ايلاند، رئيس شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، وهي خطة كان قد أعدت لتفريغ المنطقة وتحويلها إلى "منطقة عسكرية مغلقة" وإجلاء السكان منها، تحت سطوة التجويع وقطع المساعدات الأساسية عنها، بمعنى التجويع حتى الموت بهدف القضاء  بشكل كامل على أي تواجد لسكان غزة وأي تواجد  لحركة "حماس" في شمال القطاع. ومن ثم تحويلها إلى منطقة معزولة خالية من السكان الفلسطينين على طول الشريط الحدودي. 

المنطقة التي تبدو للعيان أن الاحتلال الإسرائيلي قد حولها إلى مدينة أشباح نتيجة القصف الذي أدى إلى تدمير المنازل وتحويل كل شيء إلى رماد، وتم هذا القصف تحت وطأة حصار شديد وتجويع وتعطيش ومنع الدواء والعلاج من الدخول إلى السكان. ويُذكر أن الاحتلال قد بدء عملياته بعد أن طلب من السكان مغادرة منطقة جباليا، لأن الخطة تقضي بأن من يبقى منهم يعتبر إرهابيًا ويجب قتله.  

لقد بدى المشهد انه هولاً من أهوال يوم القيامة، البيوت كأنها قبورًا اندثرت، والسكان مِمَن كتب له النجاة والحياة، يخرجون من أسفل المباني المهدومة وقد اعتلى غبار الردم أجسادهم من أعلى الرأس حتى أخمس القدم، إنه مشهد يخطف الأنفاس، ويذيب القلوب.

فقيام الجيش الإسرائيلي بتجميع الناس في جباليا بعد قصفه المجنون، وقد أحاطت بهم الدبابات في مشهد صعب، وطلب ممن لم يأسره أن يغادر المنطقة إلى الجنوب، لن ينهي قصة صراع بين الحق والباطل وإن الحق في النهاية سينتصر مهما تغول الباطل، ذلك لأن خير الناس في غزة، وخير الرباط فيها.