الآن، بعد قرار محكمة العدل الدولية أول أمس، وبعد مثولها أمام المحكمة الجنائية الدولية كمتهم في حملة إبادة جماعية، دخلت منظومة الاحتلال الاستعمارية العنصرية صراعًا مباشرًا مع الشرعية الدولية، ودول العالم الحرة المحبة للسلام، العاملة قولاً وفعلاً على إنفاذ وتطبيق القانون الدولي بعدالة، والآن لدينا برهان آخر على صواب منهج العقل الوطني الفلسطيني السياسي، الذي كرسه رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية الفلسطينية الرئيس الإنسان محمود عباس أبو مازن بحكمة وشجاعة، وعقلانية وواقعية، ورؤية صائبة، الموقف الوطني، عمادها التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية، وقدرة الشعب على إبداع وسائل مقاومة شعبية سلمية، بموازاة نضال سياسي ودبلوماسي في المحافل الأممية والقانونية الدولية، فمسار النضال الوطني هذا المنسجم مع خصوصية الحق الفلسطيني "القضية الفلسطينية" لم يكن في حسابات الدول الاستعمارية والمنظمة الصهيونية التي أنشأت إسرائيل فقرارات وقوانين منظومة القوة القائمة بالاحتلال "إسرائيل"، ومنها قانون الكنيست الأخير لن تطمس من الحقيقة الفلسطينية الأزلية مقدار قطر شعرة، فقيام دولة فلسطينية حق فلسطيني ثابت في إطار الحق التاريخي والطبيعي للشعب الفلسطيني، وصارت دولة فلسطين جزءًا مهما من الخريطة "الجيوسياسية" المعتمدة لدى الشرعية الدولية، وهيئات القانون الدولي التابعة لها.

انتصرت العدالة الدولية للرواية والرؤية الفلسطينية، وللمبادئ الوطنية التي على أساسها رفعت ركائز موقف قيادة الشعب الفلسطيني، حيث لا نزاع على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ حزيران سنة 1967، وإنما نضال لانتزاع ما أمكن من الحق التاريخي، وأن الاحتلال وما ترتب عليه، والاستيطان جريمتا حرب، وأن للشعب الفلسطيني الحق في تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي أقرت له بحق قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وذات سيادة، وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية في الرأي الاستشاري، عندما أكد رئيس المحكمة نواف سلام أثناء تلاوة القرار، انعدام أي شرعية للاحتلال والاستيطان اليهودي الإسرائيلي، وكذلك والقوانين والإجراءات والقرارات التي اعتبرتها المحكمة تمييزًا ممنهجًا لسلب المواطنين الفلسطينيين حقوقهم في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967. وأن على إسرائيل باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال إنهاء الاحتلال وإيقاف أي نشاط استيطاني فورًا وإخراج كل المستعمرين من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبإمكان أي باحث عن الحقائق رؤية قرار العدل الدول كانعكاس دقيق لعدالة المطلب الفلسطيني المنسجم فعلاً مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومنح الرأي الاستشاري للعدل الدولية قوة إضافية ورافعة شرعية قانونية للمقاطعة الدولية للاستيطان ومنظومة الاحتلال حيث شددت المحكمة على واجب عدم اعتراف الدول بالوجود اللاشرعي للمستوطنين ولدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم تقديم أي مساعدة من شأنها أن تساعد إسرائيل في الحفاظ على الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ليس هذا وحسب، بل أكدت على واجب عدم اعتراف المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، بشرعية الوضع القائم والوجود غير الشرعي لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن على الأمم المتحدة والجمعية العامة ومجلس الأمن دراسة التدابير الإضافية لوضع حد للوجود غير الشرعي لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ما يعني أن اعتبار سياسة منظومة الاحتلال والاستيطان العنصرية، لم يكن جزافًا، فالعدل الدولية رأتها كما رأيناها وشخصت سياسة المنظومة بدقة كما شخصناها، فإسرائيل- حسب قرار محكمة العدل الدولية – الدولة القائمة بالاحتلال والاستيطان  متهمة بارتكاب جريمة الفصل العنصري والتمييز، فقد نص القرار على "أن إسرائيل عمدت إلى تطبيق تشريعات وسياسات وقيود على الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما يشكل تمييزًا ممنهجًا على أساس العرق أو الدين أو الأصل وهذا حسب رأي المستشارين يرقى إلى مستوى "العزل أو الفصل العنصري المنتهك للقانون الدولي". ولم تغفل المحكمة عملية الفصل المادي  للمواطنين الفلسطينيين وتحويل تجمعاتهم إلى جيوب معزولة كما تفعل المنظومة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وكل ذلك تجسيدًا لمنهج إسرائيلي وصفته المحكمة بأنها "سياسات وممارسات تمييزية" كالقرارات المتعلقة بالبناء وعمليات الهدم، ومصادرة أرزاق وممتلكات المواطنين الفلسطينيين، وتحديد حرية الحركة، وسياسة التصاريح للفلسطينيين المقدسيين التي تصعب عليهم البقاء فيها، وكذلك قرارات الضم وتوسيع الاستيطان.

نعتقد أن العدل الدولية، بانتصارها لمبادئ وقيم العدل، قد قطعت الطريق أمام منظومة الاحتلال، وحولت مسار قرار الكنيست الأخير الرافض لقيام دولة فلسطينية إلى مكانه الطبيعي وهو سلة المهملات.