بقلم: يامن نوباني
ليست الطريق إلى أسرى غزة سهلة، ولا سجنهم بالسهل، السهل الوحيد هو "التعذيب" الذي تعرضوا له في السجنين العسكريين "سدي تيمان" قرب بئر السبع و"عوفر" غرب رام الله، حيث لا حسيب ولا رقيب.
إن حالة عشرات الأسرى الذين أفرج عنهم في الأيام والأسابيع الماضية، أظهرت تعذيبًا غير مسبوق تعرض له الأسرى خلال اعتقالهم وأثناء وجودهم أشهرًا طويلة مغيبين ومقطوعين عن العالم، فيما لا يزال يقبع آلاف الغزيين منذ الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مرورًا بكل من اعتقلوا حتى اللحظة.
الباحثة والناشطة في مجال حقوق الإنسان وقضايا الأسرى، والمحامية في القسم القانوني في لجنة مناهضة التعذيب جنان عبده، من الذين حاولوا زيارة "سدي تيمان" قبل أن يتم تبليغها بنقل الأسرى الذين تنوي زيارتهم إلى "عوفر" العسكري.
وتقول عبده، حول ظروف المعتقلين: "لم أر معتقل سدي تيمان بنفسي، فقد تم إلغاء زيارتي التي كنت قد طلبتها، وعشية الزيارة أخبروني أنه تم نقل المعتقلين إلى السجن العسكري في عوفر، لكن من الشهادات التي سمعتها من المعتقلين حين زرتهم بعوفر وكانوا نقلوا لتوهم من سديه تيمان وغيرهم، ومن شهادة محرر أطلق سراحه بعد أن قضى فيه 52 يومًا بشكل متواصل، وتم بتر رجله بسبب العنف والضرب ثم اهماله طبيًا وعدم معالجة أوجاعه، إلى أن وصل الحال بأن خيروه وهو مغمض العيون، إما رجلك أو حياتك وبعد بتر رجله أطلق سراحه لغزة".
وأضافت: "بناء على وصف المعتقلين، فمساحة سدي تيمان ليست كبيرة، يشمل المعتقل مباني كما زرائب الحيوانات محاطة بالشباك، كل مبنى حجمه بمعدل 20 مترا يحوي بين 120-130 معتقلاً".
وحول زياراتها للأسرى، ومعاناة وإجراءات ما قبل الزيارات، وأوضاع الأسرى، تقول عبده: أنه "ليس الحديث فقط عن معاملة قاسية إنما معاملة تصل حد التعذيب، وتعريف التعذيب -فهو تصرف متعمد يقوم به صاحب سلطة ضمن وظيفته بهدف إيذاء شخص ما أو الحصول منه على معلومات".
عيون مغمية بخرقة بيضاء مربوطة، يدان ورجلان في القيد كل الوقت، يتم ايقاظهم في الخامسة صباحًا حتى الحادية عشرة مساءً، وركوع على الركب، بصفوف طويلة واحدًا قرب الآخر، ممنوع الحديث، الرأس منخفض لأسفل، من يحاول رفعه أو التحرك يتعرض للضرب، أو يتم أخذه للحائط ويجبر على رفع اليدين أو الوقوف على رجل واحدة.
وأضافت عبده: "مما سمعته من إفادات، لا يوجد علاج طبي، فمن بترت رجله تدهور وضعه من الضرب والعنف والإهمال، كانت تحضر مجندة تصوره وتتركه إلى أن تفاقم وضعه، مع سخونة وأوجاع، ورغم ذلك تم اجباره على البقاء راكعًا وإلزامه بالوقوف أثناء العد، وأجبروه بالضرب والصراخ بالسير على رجله حتى خيمة العيادة"، لافتةً إلى أنه تم إجراء العملية له في مستشفى خارجي وهو مغمض العينين، وطلب منه أن يوقع على أوراق وهو مغمى العينين، وتم ابقاؤه في المعتقل 20 يومًا إضافيًا وهو مقيد، كان يسمع صراخ الأسرى والكلاب تهاجمهم.
وتابعت: في السجن أيضًا، غرفة يسميها الأسرى غرفة الديسكو –مغلقة كليًا مع سماعات ضخمة يتم تفعيل موسيقى صاخبة فيها بشكل متواصل، منهم من أبقوه فيها لساعات ومنهم لأيام– يأخذونه للتحقيق ويعيدونه، وما زال يشكو من أوجاع كبيرة في أذنيه وطنين، موضحةً أنه لم يتم عرض المعتقلين على قاضٍ إلا بعد حوالي سبعين يومًا من خلال شاشة هاتف جندي قال لهم القاضي بالطرف الآخر إنهم معتقلون حتى نهاية الحرب.
وتشير عبده إلى أنه إضافةً لسياسة العقاب والتجويع وسياسة الترهيب النفسي، أيضًا هناك سياسة الإهمال الصحي غالبية من التقيتهم يعانون من أمراض مزمنة ولا يحصلون على العلاج، وابقاؤهم دون علاج يضعهم في دائرة الخطر.
وحول أشد المواقف التي واجهتها المحامية عبده خلال زياراتها للأسرى والمعتقلات، تقول: "التجربة ككل صعبة لي أيضًا كمحامية. زرت معتقل عوفر العسكري أنا وزميلتي، حضرت سيارة عسكرية مع ثلاثة جنود قاموا بتفتيشنا بآلة التفتيش (تفتيش خارجي كما في المطارات)، وفي السيارة جلس قربنا جندي مع سلاحه، غرفة الزيارة فيها كاميرتان موجهتان إلينا واحدة من الأمام وواحدة من الخلف، المعتقل يجلس من الجهة الأخرى بالإمكان رؤيته وسماعه عبر طاقة صغيرة وشبك حديد، مقيد اليدين، بينما جندي يقف قرب الغرفة بجانب شباك أبقي مفتوحًا خصيصًا.
وأضافت: جميع المعتقلين لم يفهموا بداية من أكون أنا وزميلتي، ومن أين أتينا، ما أن أبلغتهم أني من طرف العائلة، وأن العائلة بخير وترسل لهم التحية، أجهشوا بالبكاء، جميعهم لا يعرفون مصير عائلاتهم، وحين سألت المعتقلين: هل تعرف أين أنت؟ أجابوا جميعًا لا، فبعضهم مضى على اعتقاله عند زيارتي ستة أشهر وبعضهم أربعة أشهر، انفعال كبير عند بعضهم، قلق وعدم اطمئنان. بعضهم خائف، كنت وزميلتي أول بشر يلتقونهم طيلة الاعتقال، من غير السجانين أو المحققين.
وتابعت: "الزيارة زودتهم بالأمل، الأصعب حين يأتي الجواب على طلب معرفة مكان وجود المعتقل بأنه غير موجود ولم يعتقل، يكون الأهل بانتظار بارقة أمل ويأتي الجواب الصادم، ثلث الطلبات التي قدمتها جاء الجواب: لم يعتقل، غير مسجون في سجوننا. بينما أكدت عدد من العائلات أنه تم اعتقاله من قبل الجيش أو أن محررًا أخبرهم أنه التقاه داخل السجن، وهذا يطابق مفهوم الاخفاء القسري".
وحول أهم ما لمسته عبده من تغيّر على السجن والسجان بعد السابع من أكتوبر، فهو أن هناك حرب في غزة وهناك حرب في السجون على الأسرى جميعًا، من غزة والقدس والضفة والأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين. سياسة واحدة موجهة تهدف إلى كسر إرادة الأسرى وتحطيمهم والتنكيل بهم، لأجل الانتقام الأعمى وإلغاء تام لمفهوم الإجراء العادل واحترام حقوق الأسرى، والاتفاقيات الدولية، والحفاظ على كرامتهم، فالسياسة المتبعة تهدف إلى المس بكرامتهم وحياتهم.
بالنسبة للإجراءات الجديدة، وبخاصة معتقلي غزة، فإن إجراءات الزيارة تمت بعد أن توجهت لي العائلات طالبة معرفة مكانهم إن أمكن. عشرات التوجهات، قبل الحرب كان بالإمكان إرسال طلب زيارة مع تفاصيل المعتقل والحصول على توقيعه على توكيل أثناء الزيارة، بعد الحرب وتحديدًا لأهل غزة يطلب منا الحصول على توقيع الأهل درجة أولى وهو ما يصعب ويعيق الزيارات، فالصعوبة أن غزة في حالة حرب، حيث انقطاع كهرباء والانترنت أدى إلى صعوبة التواصل، في بعض الحالات الأهل والأقارب درجة أولى ليسوا على قيد الحياة، كانت لي توجهات من قرابة ثانية وسلطات السجن رفضت.
وأضافت: ارتفاع عدد الأسرى قبل الحرب من 4,500 إلى قرابة 10,000، ما أدى إلى اكتظاظ، وأمراض متفشية، ونوم على الأرض، وانعدام أو محدودية العلاج الصحي، وسوء التغذية حتى التجويع، هناك إفادات على هبوط بالوزن بمعدل 30 كيلوغرامًا، وسحب كل أدوات الكهرباء، وقطع الكهرباء طيلة ساعات اليوم، منذ بداية الحرب تم إغلاق السجون ومنع الرقابة الخارجية. كما أن الإغلاق أمام الصليب الأحمر والأهل ما زال قائمًا، وإعاقة زيارات المحامين بعدة طرق منها: تحديد زيارات متأخرة لشهرين وأحيانا أكثر، وإعلان حالة طوارئ لدى وصول المحامين وإلغاء الزيارة، وتحديد مدة الزيارة إلى 45 دقيقة، وزيادة كبيرة بالاعتقالات الإدارية وضمنها النساء، وتمديدها، كما أن عدد المحامين لا يكفي لزيارة المعتقلين وسيتطلب الأمر أشهرا بل سنوات للوصول لجميع المعتقلين.
وتابعت: بناء على رد الدولة لالتماس قدمته اللجنة لمناهضة التعذيب ضد التعديلات القضائية في قانون المقاتل غير الشرعي، في السجن اليوم 2300 معتقل من غزة فقط. تم إطلاق سراح 1900 إلى غزة اعتقلوا وفق ما يسمى "قانون المقاتل غير الشرعي"، بينهم نساء إحداهن بعمر 82 عامًا تعاني من مشاكل صحية ومرض النسيان اعتبرت مقاتلة غير شرعية. وكذلك أطفال، أحدهم قدمت طلب معرفة مكان اعتقاله عمره سبعة عشر عامًا وهو معتقل منذ أربعة أشهر في سجن عوفر العسكري.
وحول الرؤية القانونية لسجن "سدي تيمان"، تقول عبده: يجب إغلاقه فورًا، لا يفي بأي شروط، ينافي المواثيق الدولية وعلى رأسها قواعد مانديلا واتفاقية مناهضة التعذيب وحتى القوانين والأنظمة الإسرائيلية الخاصة بالسجناء، ما نسمعه عنه يذكر بسجن غوانتانامو وأبو غريب، وسياسات الاخفاء القسري، مبينة أن عدة مؤسسات حقوقية قدمت التماس للمحكمة العليا بطلب إغلاقه.
وختمت القول: بأن المشكلة ليست بمكان المعتقل بل بالسياسات الموجهة، فحتى لو تم إغلاقه، إن بقيت ذات السياسات والممارسات فسيتحول عوفر العسكري إلى "سديه تيمان" رقم 2. وما يصلنا عن ظروف باقي السجون ووضع كافة المعتقلين -ليس فقط الغزيين- لا يقل سوءًا، الأسرى في خطر حيث تحول السجانون لأدوات تعذيب يطبقونها دون مساءلة، بل يتلذذون بذلك حيث لا رقابة ولا محاسبة ولا مساءلة، وفي غياب أي منظومة حماية للأسرى وأي جسم رقابي خارجي يدخل السجن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها