بعد يومين من محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وسط تجمع انتخابي لمؤيديه في مدينة بتلر غرب ولاية بنسلفانيا. انطلقت أعمال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري يوم الاثنين الموافق 15 يونيو/تموز في ميلووكي، وكان الحدث الأبرز في المؤتمر تثبيت اسم المرشح ترامب على البطاقة الانتخابية للحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية القادمة يوم 5 نوفمبر 2024، بالتوازي مع اختيار سيناتور أوهايو جي دي فانس ذو مرشحًا كنائب للرئيس المحتمل، باعتباره داعم كبير لأجندة ترامب الشعبوية والمرشح القوي لحمل الإرث الايديولوجي لترامب، إلى جانب فوزه بمنصب عضو الكونغرس عن ولاية متأرجحة هامة من الوارد أن تحسم قرارها الانتخابي لصالح مواطنها فانس.

محاولة الاغتيال الفاشلة للمرشح ترامب تجسيداً لقمة الهرم وأعلى درجات العنف السياسي، وقدمت النموذج القبيح لحالة الاستقطاب الحاد الذي يسود المشهد السياسي الأميركي بين الحزبين الكبيرين الجمهوري والديموقراطي منذ عهد الرئيس أوباما، وارتفعت حدتها مع السباق الرئاسي عام 2020 بين الرئيس الحالي والرئيس السابق ترامب. واستمرت الفجوة على مدار السنوات الأربع الماضية بالاتساع، ومهدت المناظرة التلفزيونية الأولى التي قدمتها محطة الــ CNN بين المتنافسين شكلها الحالي، وأظهرت ارتفاعًا يكاد أن يكون مضاعفاً في شعبية ترامب على حساب الرئيس بايدن، ومع إصدار المحكمة العليا الأميركية قرارًا بمنح ترامب حصانة عن الأعمال التي قام بها خلال فترة ولايته، وفرت هذه الظروف لترامب جرعة زائدة للشعور بالتفوق، على حساب انطلاقة متعثرة لمنافسه بايدن، وسط ركام من الفوضى في ملفات السياسة الداخلية والخارجية لإدارته.

مشهد ترامب وهو يلوح بقبضته مع الدم النازف تحولت إلى صورة أسطورية على الفور تناقلها المؤيدون، وحركت مشاعر التعاطف الإنساني معه، فالرصاصة التي كادت أن تضع حدًا لمسيرته السياسية المثيرة للجدل، وضعت مزيدًا من النقاط على الحروف وارسلت إشارات تحذيرية للمجتمع الأميركي برمته. في الوقت نفسه، أضافت مزيداً من التحديات الجديدة أمام قادة الحزب الديموقراطي، جملة هذه الرسائل وصلت سريعاً إلى بريد الديموقراطيين الذين يعانون من حالة انقسام ونقاش صاخب حول المواقف بشأن استمرار مرشحهم بايدن في سباق الرئاسة، وفشل واضح في اقناع القاعدة الشعبية خاصة في الولايات المتأرجحة ووادي السيليكون التي اصبحت تميل لصالح ترامب، حيث الجيوب العميقة من المتبرعين لصالح الحزب الديموقراطي، إلى جانب تحذيرات صادرة عن الممولين التاريخيين للحملات الانتخابية للحزب الديموقراطي.

رصاصة كروكس التي أخطأت هدفها المقصود، قدمت لترامب هدية مجانية عظيمة كان يبحث عنها منذ سنوات، من ناحية، تحت العلم الأميركي والدماء النازفة وقف ترامب كزعيم قوي ولوح بقبضته المعهودة، وحاز على لقطة "زعيم الأمة الأميركية"، على خط النار الأمامي الساعي لإعادة عظمة أميركا وقوتها. ومن ناحية أخرى، يظهر مشهد محاولة الاغتيال للناخبين المترددين أن ما يتعرض له ترامب من ملاحقات قضائية واتهامات وإدانات من قبل القضاء الأميركي منذ سنوات، لا يتعدى كونه من صناعة الدولة العميقة وأعدائه من الديموقراطيين الحريصون على استمرار الحرب في أوكرانيا، لازاحته عن المشهد السياسي وهذا ما كان يردده ترامب بشكل مستمر، بينما يقابله الديموقراطيون بالتكذيب ويتهمونه بنشر خطاب العنف والكراهية في المجتمع الأميركي.

ترامب القادم من عالم الصفقات والطامح للعودة مرة أخرى إلى البيت الابيض، يعارض جميع سياسات الرئيس الحالي بايدن، من بين أمور أخرى، رعاية أميركا للحرب الروسية الأوكرانية، في هذا السياق، يرى ترامب أن كييف لا تستحق الدعم الأميركي وتدفقات السلاح وأموال دافعي الضرائب، وأن بمقدوره إنهاء هذه الحرب فور دخوله البيت الأبيض بمكالمة واحدة مع الرئيس بوتين، بالمقابل، يؤمن ترامب أن بلاده أشبه بشركة تأمين على الحياة للأنظمة والدول عبر العالم، وأن على الدول الراغبة في الحصول على الحماية الأميركية أن تدفع المال مقابل خدمات الحماية، وكان أحدث تصريح له موجه إلى تايوان لحمايتها من الصين.

العنف السياسي ليس جديدًا على المشهد الأميركي ويمكن اعتباره جيناً وراثياً سائداً، فهي الإمبراطورية التي قامت على جماجم وعظام الهنود الحمر سكان وأصحاب الأرض الأصليين، والاغتيالات السياسة ايضاً ليست مشهدًا استثنائيًا فقد تعرض عدد كبير من الرؤساء الأميركيين لمحاولات اغتيال، سجل بعضها نجاحاً كما في حالة الرئيس الخامس والثلاثين جون كينيدي والعديد منها اخطأت أهدافها كما حصل مع جورج دبليو بوش، أوباما، بيل كلينتن. لكن ما يميز هذه المحاولة عن غيرها هو حدة الاستقطاب السياسي القائم وحالة الانقسام الكبيرة السائدة في المجتمع الأميركي بين جنون الشعبويين وغطرسة الليبراليين، خاصة بعد التصريحات الصادرة – تراجع عنها بعد محاولة الاغتيال، عن أعلى مستوى في الحزب الديموقراطي وهو الرئيس الحالي بايدن والذي وصف فيه منافسه ترامب بأنه "يشكل تهديدًا وجوديًا"، هذا المشهد يُقرب المسافة بشكل متسارع ويدفع نحو حرب أهلية يبدو أنها تلوح في الأفق وباتت أقرب من أي وقت مضى.

التحذيرات من وقوع حرب أهلية وشيكة وتقسيم أميركا إلى أمريكيتين "جمهورية وديموقراطية" على الرغم من تعمد قادة الطرفين عدم إثارة هذه القضية واصرارهم على أنها مظاهر فردية – أطلقت الشرطة الأميركية النار على شخص آخر مسلح وأردته قتيلاً بالقرب من مبنى انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في مدينة ميلووكي، يمكن رصدها في إجابة ترامب خلال المناظرة على قناة الــCNN عندما وجه له المضيف سؤالاً حول اعلان اعترافه بنتائج الانتخابات القادمة في حال فوز الرئيس بايدن، ليجيب ترامب، نعم ولكن "في حال كانت الانتخابات نزيهة وشفافة". هذه الإجابة الغامضة ترسل إشارات إلى جميع الأطراف وخاصة القاعدة الشعبية لترامب والتي تزيد عن ثمانين مليون مؤيد، إنه في حال عدم فوزه فإن الانتخابات تعتبر مزورة تلقائياً.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم استطلاعات الرأي تُظهر تقدم ملحوظ للمرشح ترامب على منافسه الرئيس الحالي بايدن – آخر استطلاع للرأي أظهر النتائج التي تبين تقدم ترامب بنسبة 43% مقابل 41% لبايدن. ومع مزيد من الحجج المتوافرة، لم يبقى أمام الديموقراطيين هامش كبير للمناورة باستثناء تسليم مفاتيح البيت الأبيض لترامب، وتوظيف جهودهم للتركيز على الاحتفاظ بمقاعدهم في الكونغرس القادم، وبغير ذلك فإن آية نتائج معاكسة لقناعات ترامب المؤكدة بالفوز سوف تكون نقطة الانعطاف التاريخية نحو تفكك الولايات المتحدة بشكلها الحالي.