تعد الأنتفاضة الطلابية الحالية حراكاً غير مسبوق في أميركا منذ احتجاجات الحرب الإجرامية على فيتنام والتي شهدت مجزرة تعرض فيها طلاب الجامعات الأميركية للقتل بعد تعهد نيكسون بسحقهم ثم بعدها انتصر الاحتجاج الشعبي وانسحبت أميركا من فيتنام في عهد فورد.
أما اليوم ومع تزايد واتساع احتجاجات الحركة الطلابية والتي باتت تتسع كحركة احتجاج شعبية عالمية ضد دولة الاحتلال ورفضها الحلول المطروحة واصرارها على استمرار حرب الإبادة بعقلية نتنياهو السياسية الفاشية، كما وسياسات الغرب، وكشكل متقدم من التضامن الدولي مع قضايا شعبنا وحقوقه وخاصة بما يتعلق بوقف حرب الإبادة والمطالبة بمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. فإن الاحتجاجات والمظاهرات في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان وأستراليا وغيرها من الدول الأوروبية تقابلها أجهزة الدولة باستخدام قوة مفرطة واعتقالات وعدم مخيمات التضامن وحظر دخول محاضرين إلى عدد من الدول من قبل أجهزة الأمن ومحاولة فض الاعتصامات بالقوة الهمجية أسوة بما حدث في الولايات المتحده الأميركية سابقًا، ولكن الدخول في تحدي مع الطلاب في تجارب سابقة وحتى في هذه المرة يبدو مسألة خاسرة للأنظمة هنالك، خاصة مع إشاعة تهم معاداة السامية بحقهم التي تكذبها الوقائع والحقائق.

ففي فرنسا وباريس على وجه التحديد هنالك توافق لأكثر من جهة تشارك اليوم في هذه الحركة الاحتجاجية، هنالك الاتحادات الطلابية وهنالك اليسار الفرنسي الموحد الذي حقق نتائج كبيرة بالأنتخابات البرلمانية الأخيرة، هنالك حتى أعضاء من البرلمان الفرنسي الذين أعلنوا بشكل صريح وواضح عن مساندتهم لهذه الحركة الاحتجاجية.
وربما أن التأثر وبشكل كبير بما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية كان واحدًا من الأسباب التي تزيد من زخم الحركة الاحتجاجية بكل مكان اليوم، هذه الحركة وصلت إلى معظم الدول الأخرى حول العالم.
لقد أكدت أنجيلا ديفيس وهي من السود وأستاذة بجامعة أوهايو وواحدة من قادة الفكر اليساري التقدمي بالولايات المتحدة التي تعرضت للأضطهاد سابقًا، "أن الطلبة هم من يصنعون طريق التغيير ، وفلسطين هي معيار اختبار العدالة للجميع وما يحدث اليوم سيضمن العدالة للجميع في العالم في نهاية المطاف".

من الواضح اليوم بأن الحركة الصهيونية ومؤيديها بالغرب يخسرون ساحة الجامعات الأميركية وحتى الأوروبية بل والرأي العام الدولي بسبب التحولات التي حدثت في صراع اجتماعي سياسي استمر لسنوات عديدة في المجتمع الأميركي والغربي، وهو صراع متجذر إلى حد كبير في المفاهيم حول قضايا العنصرية البيضاء، البطالة، المهاجرين ازمة الرأسمالية العالمية وبؤر التوتر بالعالم تفوقت به الثقافة التقدمية التي اجتاحت الشباب، إضافة إلى نوع وحجم الجرائم المرتكبة ضد شعبنا الفلسطيني المتمسك بأرضه.

إن الطلاب في كل مكان في العالم أصبحوا متحدون في مواجهة المواقف الأميركية والإسرائيلية والجرائم المرتبطة بهما. فبعد تظاهرات الولايات المتحده توالت التحركات في كل مكان تقريبًا من دول الغرب. أعتقد أن البدايات وكفاح شعبنا الفلسطيني قد ساهم في إيقاد شعلة احتجاجاتهم المتصاعدة كما يقول قادة الطلبة "بأن فلسطين قد الهمتنا وقد ألهمنا بعضنا البعض بالنتيجة، وهذا يُظهر أن صوت الشباب والطلاب لديه ما يقدمه ويمكن سماعه إذا تحدثنا بصوت عال وموحد بما فيه الكفاية".
برأي فإن هذا الحراك الطلابي والشبابي الدولي وما يحمله من معاني التضامن مع نضال شعبنا الفلسطيني ومع قيم الإنسانية المتمثلة بالحرية والعدالة والمساواة، ومن عداء منهجي وواعي للسياسات الأميركية القديمة الجديدة بحق شعوب العالم وحقوقها، ومن افتتضاح طبيعة دولة أسرائيل الاستعمارية والعنصرية التي تنتهك كل المواثيق والقوانين الدولية وترتكب جرائم العنصرية والاستيطان وحرب الإبادة الجماعية وتقف اليوم بناء على ذلك في قفص العدالة الدولية كما قادتها الذين قد يواجهون تهم في محكمة الجنايات الدولية، قد أصبح إلى جانب المتغيرات الجارية بالنظام الدولي والمتمثل في فقدان الولايات المتحدة قدرتها على الهيمنة كما بالسابق، وبدايات تمزق الوحدة الأوروبية في إطار الاتحاد الأوروبي وفق ما أشار له مسؤول السياسة الخارجية بالإتحاد الأوروبي جوزيف بوريل قبل أيام. مظاهرات وحركات تتأثر أيضًا بما يجري في فلسطين وأوكرانيا واقتراب هزيمة الولايات المتحدة والناتو الأوروبي فيها مقابل روسيا ووصول دولة الأحتلال الى مأزق مغلق في حربها العدوانية بغزة لم تحقق انتصار فيها، وهو ما يساهم بالتغيير الجاري بالعالم وفي تحولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لصالح انتصار شعبنا نحو حقوقه وإنهاء الاحتلال وحقه بتقرير المصير فوق أرضه.
لكنني لا أعتقد بأن هنالك إمكانية لأن تتغير السياسة الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية الرسمية فوراً طالما أحزاب اليمين والليبرالية الجديدة ما زالت بالسلطة الحاكمة فيها والتي ساندت إسرائيل منذ تأسيسها على حساب حقوق شعبنا والقرار الأممي ١٨١ وما تبعه من قرارات.

لكن ستكون هنالك تغيرات تتراكم فيها حجم الاحتجاجات الكمية التي ستؤدي إلى تغير نوعي في بنية انظمتها السياسية وبنتائج انتخابات كل دولة فيها، وهو أمر جاري في الولايات المتحدة وحتى بإسرائيل هذه الأيام من مظاهرات يومية تطالب بوقف الحرب وتنفيذ صفقة التبادل وإسقاط حكومة اليمين الديني الفاشي، رغم أنني لا أبشِر بالبديل الصهيوني القادم.
ولذلك فإن مثل هكذا حركات احتجاجية واسعة عمودها الحركة الطلابية ومن يساندها من القوى اليسارية والتقدمية حتى من بين اليهود أيضًا والآخذة إلى الانتقال عبر الأطلسي بسرعة كبيرة اليوم سيكون لها تأثير على مجمل سياسات الغرب الذي بدأ العديد من المسؤولين فيه بمن فيهم بالولايات المتحدة الى حد ما وبما يتوافق مع استراتيجيتهم يدركون بتفاوت تاثير الأحتلال على مجمل قضايا الاستقرار والسلام بالمنطقة والمصالح الأميركية حتى إلى حد ما، وبالتالي ضرورة أن يمارس شعبنا حقه بتقرير المصير.
ويمكن هنا أن أشير إلى مثال واضح متعلق بحرب فيتنام التي على أثرها بدأت ضدها الاحتجاجات من جامعة كولومبيا الأمريكية التي امتدت كحركة معارضة لهذه الحرب إلى فرنسا. فهل يمكن أن يكون تأثير هذه المظاهرات اليوم كما جرى تجاه حرب فيتنام عام ٦٨؟

وللحقيقه فمن اللافت للنظر اليوم أنه في الولايات المتحده الأميركية وفق احصاءات معترف بها وموضوعية، فإن الذين تتراوح أعمارهم ما بين ١٩ عامًا إلى ٣٠ عاماً لا يبدوا أنهم يحملون نفس وجهات نظر الأجيال السابقة بما يتعلق بشكل كبير بانحيازها الى إسرائيل. هنالك كثير من الفئات الاجتماعية لم تعد تقتنع بخطاب الاعلام الذي تقدمه المؤسسة الحاكمة سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية والتي تشهد اليوم حجم من المعارضة الواسعة داخل الحزب الديمقراطي الأميركي بفعل نشاط التيار التقدمي فيه إضافة إلى مواقف تضامنية متقدمة تتخذها أحزاب اليسار المعارض والقوى التقدمية في دول الاتحاد الأوروبي تشكل خط دفاع عن قضايا وحقوق شعوبهم وشعبنا الفلسطيني من خلال ممارسة كل اشكال الضغط الممكن.

إلى جانب ذلك هناك بُعد آخر وهو المتعلق بفترة سابقه بخصوص حضور القضية الفلسطينية بالساحات الدولية الذي كان قد بدأ في التراجع. فإن جرائم إسرائيل اليوم في غزة وباقي المدن الفلسطينية رغم كمية الدماء الفلسطينية النازفة، وما يتبعها من هذه المظاهرات بالعالم واستخدام العنف ضدها من أجل فضها، تراه أعاد إحياء حضور القضية الفلسطينية وهذه المرة في العواصم الغربية، بحيث باتت اليوم قضية شعبنا ومشروعه التحرري الوطني بما في ذلك حقه بالمقاومة وفق القانون الدولي التي أكد عليها وزير الخارجية الصيني، واستذكارهم لمقاومة شعوبهم ضد الإستعمار والوحش النازي، أصبحت في مقدمة سلم الاهتمام الدولي لمعظم شعوب العالم إن لم تكن جميعها.

وهنالك ادراك جديد على مستوى النخب السياسية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها، بأنه ما لم يكن هنالك حل للقضية الفلسطينية لا يمكن الوصول إلى حالة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يدفع الولايات المتحدة للحديث عن "حل الدولتين" رغم عدم اكتمال صورته ومفهومه لمحاولة انقاذ مكانة إسرائيل من عزلتها، كما والخسائر الإسرائيلية متعددة الأوجه ومحاولات تحقيق ما لم يتم تحقيقه عسكريا بالتحركات السياسية في إطار الرؤية الأميركية بعد كل أشكال الدعم العسكري لإسرائيل منذ بدء حرب الإبادة التي تعلن اليوم إعادة النظر بها بعد كل حركات الاحتجاج التي تجري بشوارعها.

الثورة الطلابية إن صح تسميتها بذلك تتصاعد نحو إعادة اشتعال المظاهرات التي انطلقت بأوروبا منذ بدايات عدوان الإبادة، لتصبح حركة عالمية متمردة على النظام الدولي. ولتصل إلى أعلى درجات التضامن مع غزة وفلسطين وشعبها الذي لا يمكن الا أن ينتصر من خلال الصمود وبعدم السماح بتحقيق الاحتلال لأهدافة، وهي درجة الادراك الواعي بأن العدالة لفلسطين هي مسؤولية كل واحد وواحدة من المتظاهرين في مواجهة، "الدولة العظمى الأميركية" ودعمها للحرب بكل قوة في فلسطين وأينما كان في هذا العالم. وكما يذكر الصديق والمحلل السياسي أمير مخول في احدى مداخلاته "لقد وضعوا معادلة تقول، إن مقابل كامل مسؤولية الولايات المتحدة المطلقة عن الحرب الإجرامية على غزة، تقف مسؤولية طلبة الجامعات ومعهم اوساط شعبية واسعة جداً تمثل النخب الأميركية والأوروبية المستقبلية والشابة لتؤكد أنها تتقاسم المسؤولية مع شعب فلسطين في وضع حد لهذه الحرب.