بقلم:  خالد بارود 

تعتبر ظاهرة الهجرة العكسية إشكالية وجودية بالنسبة لدولة الاحتلال، وكابوساً يثير القلق والخوف لدى أركانها، باعتبارها مشروعاً أنشيء على قاعدة انتزاع اليهود من بلدانهم الأصلية، وإغرائهم بالتوجه اليها، بوصفها أرض السمن والعسل بلد الأمن والأمان، لتحقيق ديمغرافيا يتفوق فيها اليهود على العرب الفلسطينيين، وضمان أكثرية يهودية، أمام أقلية عربية فلسطينية، ومن أجل ذلك تم استخدام القوة بوسائل احتلالية مختلفة لتهجير الفلسطينيين، واستمرت دون توقف من خلال القوة الناعمة أيضاً، وذلك بفرض واقع معاناة يومية وإجراءات تعسفية تراكمية وفرض أنظمة وقوانين احلالية متنوعة، إلا أن المتغيرات الواقعية فرضت نفسها على مدار سنوات الاحتلال في جولات المواجهة والاشتباك مع الشعب الفلسطيني لاصراره على الصمود والثبات في أرضه بالفعل ورد الفعل، مما أحدث أزمة فقدان الشعور بالأمن والأمان لليهود؛ حيث يزيد وينقص ركوداً وصعوداً حسب الظروف والأحداث التي تتسبب بها اسرائيل بعدوانها واعتداءاتها، والتي خلقت أخطر تحدٍ يواجه القادة الاسرائيليين، إنها ظاهرة الهجرة العكسية من اسرائيل إلى الخارج، ولكن بعد السابع من أكتوبر حدث الزلزال الأعنف في تصاعد تلك الظاهرة.


وبالرجوع قليلاً، وقبل السابع من أكتوبر يلفت نظرنا إلى هجرة اليهود من إسرائيل قد زادت وتيرتها خلال حكم أحزاب اليمين المتطرف، والصهيونية الدينية، وحكومة الائتلاف برئاسة بنيامين نتنياهو، وهي حكومة ذات أكثرية دينية وأغلبية يمينية حريدية في الكنيست، عملت على تقوية نفوذها وسيطرتها حتى على سلطة القضاء، مما زاد من مخاوف وقلق الاسرائيليين، وظهر جلياً فيما قاله البروفيسور( يوفال هراري ) الذي اعتبر تصاعد ظاهرة الهجرة العكسية من أبرز التحديات والمشاكل التي تواجه إسرائيل منذ قيامها، في ظل التغييرات المجتمعية والاقتصادية والقضائية الأخيرة، ووفقًا لنتائج استطلاع أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية "كان"، فإن أكثر من 25% من اليهود البالغين (فوق 18 عامًا)، يفكرون بالهجرة من إسرائيل تفكيراً جدّياً، في حين شرع 6% بإجراءات عملية للهجرة.


وقد عادت للواجهة قضية التفكير بالهجرة لأسباب ديموغرافية وأيديولوجية، حيث أظهرت نتائج سابقة لدائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية عزوف الكثير من اليهود في أوروبا عن القدوم إلى البلاد، أما (آدم كلير) من "كتلة السلام الآن" فيرى أسباب الهجرة قائلاً: الهجرة العكسية في السابق كانت لأسباب اجتماعية واقتصادية، وكذلك الظروف المعيشية الصعبة، أما  صعود الخط البياني لهذه الظاهرة في السنوات الاخيرة فيعود للصراعات الداخلية بين اليهود حول هوية إسرائيل، وكذلك المخاوف والشعور بعدم الأمان مع احتدام الصراع مع الفلسطينيين وانسداد الأفق لأي تسوية سياسية مستقبلية. فيما أظهرت وزارة الاستيعاب الإسرائيلية معطياتها عن الهجرة اليهودية وفق دراسة أعدّتها "أن ثلث اليهود في إسرائيل يؤيدون فكرة الهجرة، وخصوصاً بعد مواجهات عسكرية كبيرة مع الفلسطينيين سنة 2021". وبحسب دراسة لمركز (تراث بيغن) أظهرت أن 59% من يهود إسرائيل قدموا طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، بينما تحث 78% من العائلات اليهودية أبناءها على السفر". وتؤكد دراسة صادرة عن مركز (مدى الكرمل) بحيفا حيازة مليوني إسرائيلي جوازات سفر أجنبية، فيما لا يفكر 400 ألف آخرون، يحملون جنسيات دول أخرى في العودة إلى إسرائيل. أما أحدث استطلاعات الرأي التي نشرتها صحيفة "معاريف" الاسرائيلية فتوثق:" تشكيك 56٪ من الإسرائيليين بنجاح جيشهم فى تحقيق الردع التام. وتضاعفت طلبات الحصول على جنسيات أوروبية، حيث سُجِّل أعلى معدل على طلب الجنسية الفرنسية بزيادة نسبتها 13%، وزيادة 68% في طلبات الجنسية للبرتغال، وسجَّلت ألمانيا وبولندا زيادة 10% طلبات التجنس من الإسرائيليين.


الآن، يبدو أن المشهد يتشكل بصورة مغايرة، حيث يتوجه اليهود للهجرة من "إسرائيل " وليس إليها أكثر من أي وقت مضى، بعد فقدان الثقة بالمنظومة السياسية وسياساتها العسكرية والأمنية، وخسرانها رهانات القوة الرادعة التي على أساسها أنشئت اسرائيل، حتى أصبحت بيئة طاردة، وليست بيئة جذب لليهود من دول العالم واستقطابهم، وفندت الوقائع التي صنعها نضال وصمود الشعب الفلسطيني كذبة " اسرائيل بلد الأمن والأمان والاستقرار، والازدهار والرفاهية فتلك الصورة لم تعد قائمة اليوم، وبات كل فرد في إسرائيل مدركاً لعجز حكومته عن حمايته، بعد فقدانها الكثير من مقومات إقناع الجمهور بأسباب البقاء والاستقرار، فاندفع  آلاف اليهود للهجرة من اسرائيل، رغم احتفاء وسائل إعلام اسرائيلية بعودة كثير من جنود وضباط الاحتياط للانضمام إلى الجيش في حملة الابادة الدموية على الشعب الفلسطيني وذروتها في غزة منذ السابع من أكتوبر لغاية اللحظة، بالتوازي مع عمليات دموية في الضفة الفلسطينية المحتلة أيضاً، فانتشرت وبثت مشاهد وصور الازدحام في مطار بن غوريون للسفر منذ الأيام الأولى لعملية السابع من أكتوبر، وكذلك مشاهد النزوح الداخلي من المستوطنات حول قطاع غزة، ومن المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، ووفقاً لتقديرات صحيفة(دي ماركر): "فإن أكثر من 230 ألف يهودي قرروا مغادرة اسرائيل بعد الحرب الأخيرة التي بدأت منذ السابع من اكتوبر الماضي".


وذكرت القناة الـ12 الإسرائيلية أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين قدموا طلبات للجوء إلى البرتغال في أعقاب معركة السابع من أكتوبر مستغلين إعلان البرتغال السماح لهم بالحصول على تأشيرات اللجوء، إذ يكفي توفر جواز سفر إسرائيلي للحصول على الموافقة للاقامة في البرتغال والعمل بشكل قانوني إذ سجلت زيادة بنسبة 68% في طلبات الحصول على الجنسية من الإسرائيليين.
ووفقاً لصحيفة زمان الاسرئيلية ذكر الكاتب تاني جولدشتاين أن "عدد الاسرائيليين الذين غادروا اسرائيل خلال العطلات وأثناء الحرب ولم يعودوا نحو نصف مليون شخصاً، وهذا لا يشمل آلاف العمال واللاجئين والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد، وأشار أن الحرب قللت الهجرة إلى إسرائيل أقل من  النصف في الوضع الطبيعي، كما ذكر أن حقيقة عودة مايقرب من 300000 إسرائيلي إلى اسرائيل منذ اندلاع الحرب عبارة عن كذبة والحقيقة أن هؤلاء عادوا من إجازة العيد، وهم جزء من الآلاف الذين غادروا لقضاء الإجازة ولم يعودوا".

وقد أنشئت مجموعة باسم (نغادر البلاد معاً) على مواقع التواصل الاجتماعي قبل عام تقريباً، لكن نشاطها قد تضاعف بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة في أرض فلسطين المحتلة، ودعوتهم إلى ضرورة الهجرة وتشجيع الرحيل من اسرائيل"، إذ يؤكد أحد أعضاء المجموعة يائير شاليف بقوله: "لقد كنت أشرح لزوجتي أنه ليس لأطفالنا مستقبل في اسرائيل منذ عشر سنوات بسبب التركيبة السكانية، وقبل ثلاثة أسابيع أدركت أنه ليس لدينا نحن الآباء مستقبل هنا أيضاً، وفي النهاية سأقنعها"، وامتلأت الصفحة باعلانات سماسرة العقارات الإسرائيليين في أوروبا الذين يعرضون شقق سكنية للبيع والايجار، وعلى منصة اكس وتحت عنوان "راحلون من البلاد" يتحدث الاسرائيليون عن تدهور الأوضاع الأمنية وعدم ثقتهم بالحكومة والجيش والشرطة، التي دفعتهم للهجرة، وقد وجه الكاتب الاسرائيلي في صحيفة هآرتس (آري شبيت) رسالة للمستوطنين يقول فيها: "لا طعم للعيش في هذه البلاد ولا للكتابة في هآرتس، يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى فرانسسكو أو برلين أو باريس، يجب النظر بهدوء ومشاهدة دولة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة". ورغم ذلك يبدو أن تكتماً مقصوداً عن واقع مغادرة اليهود من (اسرائيل) في الأيام السابقة، مع محاولة جهات رسمية معنية اخفاء المعلومات عن الجمهور. 


الهجرة اليهودية المعاكسة متوقعة وحتمية، فالمحتلون والمستوطنون لا ينتمون لهذه الأرض (فلسطين)، ومن البديهي أن يبحث اليهودي الفاقد للرفاهية المادية والأمنية عن سبيل للعودة إلى بلده الأصلي، أو السفر بلا عودة نحو أماكن ودول أخرى تحقق لهم مستوى العيش الذي يرغبون به، وما هجرتهم بالآلاف، إلا اعترافاً عملياً بأنهم لم يجدوا الرخاء والأمان والسمن والعسل الذي وعدتهم به المنظمة الصهيونية، لفقدانهم مبدأ الولاء والانتماء. ولإدراكهم عمق انتماء الشعب الفلسطيني لأرض وطنه التاريخي، وأن قوة اسرائيل المسنودة بكل قوة الدول الاستعمارية لم تفلح بزحزحته عن أرضه، ولن تقوى على دفعه نحو نكبة أخرى بعد استخلاصه العبرة من نكبة سنة 1948.


لم ولن يتوقف نضال الشعب الفلسطيني لانتزاع حقه التاريخي والطبيعي والعودة الى أرض وطنه فلسطين، فمنذ إدراكه لأهداف وأبعاد المشروع الاستعماري الصهيوني، قاوم مخططات وعمليات التهجير، وبقي صامداً ثابتاً متجذراً في أرضه، واستطاع تفريغ الكذبة الاستعمارية الصهيونية القائلة: "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" من مضمونها، وفنّد كل الادعاءات التي جندت لها المنظمة الصهيونية كل وسائل التزوير والتحريف وشطب الحقائق على الأرض، عبر عقود من الكفاح والنضال بإرادة وطنية، متبعاً الأساليب المشروعة إنسانياً وقانونياً، ورغم المجازر والجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني التي بدأت قبل إنشاء منظومة الاحتلال، فالشعب الفلسطيني استطاع عكس اتجاه وأهداف المخطط بتهجير الشعب الفلسطيني، ونقل الأزمة الى مركز مجتمع الاحتلال، حتى اختل الشعور بالأمن والأمان لدى الغالبية العظمى من اليهود الذين تم اقتلاعهم من مواطنهم الأصلية وجلبهم الى فلسطين، واستطاع الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن حقه في الحياة في أرض وطنه التاريخي دفع دولة الاحتلال نحو واقع هجرة، ليس للشعب الفلسطيني، وإنما هجرة يهودية اسرائيلية عكسية، من "اسرائيل" الى مواطنهم الأصلية أو إلى بلدان يحملون جنسيتها، ولا يستبعد أن تتسع ظاهرة الهجرة العكسية في ظل فقدان الأمن والأمان، وتصاعد التوتر الأمني مع الفلسطينيين، الأمر الذي وضع رؤوس حكومات منظومة الاحتلال الاسرائيلي، ورؤوس أجهزتها الأمنية في أزمة معقدة المخارج.