لا تقتصر الشجاعة على فئة محددة من المجتمع، فهي ليست حكراً على جنود في معركة، هناك تضحيات وشجاعات أخرى من مواطنين استشهدوا أو أصيبوا وهم يحاولون انقاذ آخرين أو خلال محاولة مد يد العون لغيرهم وهذا ما تشهده الساحة الفلسطينية، لا سيما في قطاع غزة الذي يتعرض للعدوان لليوم الواحد والخمسين.
رامي أبو شعبان "52 عامًا"، درس الكيمياء الحيوية في جامعة ماستريخت بهولندا، واحد من "الفدائيين" الذين ضحوا بأنفسهم من أجل إنقاذ جيرانه.
وفقًا لشقيقته رشا أبو شعبان، رامي كان واحد من عشرات وربما مئات الآلاف الذين رفضوا مغادرة بيوتهم للتوجه جنوب القطاع، بجوار منزله كانت تقطن عائلات لجأت للجيران، وتكدس المواطنون في عمارة من ثلاثة طوابق، وصلت الدبابات لحي الرمال الذي يقطن، سمع إطلاق نار تبعه صراخ نسوة وأطفال .
هب رامي لتفحص ما حدث مع جيرانه فعلم أن ثلاثة منهم قد أصيبوا، انتظر قليلًا وصول سيارات الإسعاف لكنها لم تصل المنطقة كون دبابات الاحتلال تجوب المنطقة وتمطر المنازل والشوارع بالرصاص.
خرج من بيته مسرعًا، اقترب منهم لإنقاذهم لكن باغتته الدبابات بمزيد من الرصاص وقتلته هو وجاره الذي هب معه، ليستشهد رامي وجاره والمصابون الثلاثة.
لم يكن رامي مقاتلًا عسكريًا ولا كادراً في أحد الفصائل الفلسطينية، بل مدرب في التنمية البشرية والتسويق منذ ما يزيد على عشرين عامًا، مع مؤسسات محلية ودولية في غزة وأوروبا.
كان رامي أبو شعبان شريكًا في شركة خاصة تعمل في الاستشارات التنموية والتسويقية برفقة صديقه الدكتور ياسر العالم الذي استشهد أيضًا بعد عدة أيام في اعتداء آخر منفصل بمدينة غزة.
وشارك في ورش عمل ومؤتمرات دولية، وكان شغوفًا بتدريب الشبان الواعدين ليصنع جيلًا متميزاً مواكبا للتطور التكنولوجي والإداري في العالم، رحل رامي وترك خلفه أربعة أيتام.
في مخيم البريج وسط قطاع غزة كان محمد رفعت السلول "33 عامًا" قرب بيته عندما تعرض منزل جيرانهم من عائلة "ميّط" للقصف.
هب محمد لإنقاذ ما يستطيع، هبط صاروخ آخر على منزل مجاور، أصر السلول على إنقاذ الجيران، حمل أحد الأطفال وحاول الخروج لكن المنطقة كانت محاصرة بالركام، توجه لممر ضيق والركام يحيط به ليهبط الصاروخ الثالث وطار الطفل من بين يديه.
وقال: "وجدت ممراً أخرج منه إلا أن صاروخًا دك المربع فطار الطفل من بين يدي ولا أعلم مصيره حتى الآن وانهار الركام عليّ".
اختفى الطفل من بين يدي السلول وانهارت عليه أكوام من الردم، لم يعثر عليه المنقذون إلا بعد زهاء الساعة، وكان قد أصيب بكسور في الأضلاع والظهر وجروح في الرأس.
وقال السلول من على سريره في خيمة نصبت للجرحى في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح: "دُفنت تحت الركام وكانت يدي وطرف قدمي بارزتين الأمر الذي ساعد المنقذون في اكتشاف مكاني"،.
وتابع: "نعرف أن المكان الذي يتعرض للقصف ربما يتعرض مرة ثانية وهذا أمر خطر، لكن دافعًا أخلاقيًا وإنسانيًا يدفع الشبان لمساعدة أي شخص بحاجة للمساعدة".
كذلك المسعف أحمد أبو خضير، "55 عامًا الذي يعمل في الدفاع المدني، فقد تعرض لعدة إصابات وهو يحاول انقاذ عائلة تعرضت للقصف وسط قطاع غزة في الثاني والعشرين من أكتوبر الماضي.
وقال خضي: "إنه وزملاءه تلقوا إشارة بتعرض منزل لعائلة الحلو قرب قرية "المغراقة" لقصف جوي، توجه هناك بعربة الدفاع المدني ونزل وزملاءه وانتشلوا ثلاثة شهداء، ثم قاموا بتمشيط المكان بفحص البيوت المحيطة".
وأضاف: "أحيانًا تطير جثث أو مصابون عشرات الأمتار بعيداً وعندما كنت أفتش سطح أحد الأماكن هبط صاروخ ثانٍ على نفس المنزل، مما أدى إلى إصابتي في القدم والرأس".
ونوه إلى أن إنقاذه للمواطنين هي عملية إنسانية بحتة قبل أن تكون وظيفة، وأهم أسلحتها الشجاعة والجرأة.
وتابع: "وفق تجاربنا نعرف أن الاحتلال يقصف أحيانًا نفس المكان أكثر من مرة وهذا يعرض حياتنا للخطر لكن هذا واجبنا".
وتتعمد قوات الاحتلال قصف أحد أهدافها، التي غالبًا تكون بيوتًا مأهولة، وبعد دقائق تقصف نفس الهدف مرة أخرى ما يؤدي لاستشهاد عدد أكبر من المواطنين والمسعفين ورجال الإنقاذ.
أما أخصائيا النساء والولادة، الطبيبان الشقيقان باسل ورائد مهدي، من مدينة غزة فقد استشهدا بعد أن رفضا أن يتركا المستشفى والنازحين وحالات الولادة في المستشفى الخاص بهما وهو مشروع عائلي خاص.
وكانت عشرات العائلات قد أخلت بيوتها واتخذت من المستشفى ملجأ، وقرر الطبيبان عدم مغادرة غزة واحتضنا العائلات النازحة للمستشفى، إلا أنه تعرض للقصف واطلاق النار من الدبابات، ما أدى لاستشهاد الطبيبين الشقيقين واستشهاد 10 مواطنين على الأقل من ضمنهم عائلة الدكتور رائد وعدد من النازحين في المستشفى.
وشارف عدد الشهداء منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة على 15 ألف شهيد بينهم 22 شهيداً من الدفاع المدني و205 من الطواقم الطبية والمسعفين.
وفي حي الشيخ رضوان بمدينة غزة كان ماهر الغول وصهره محمد الطويل يحملان غالونات صفراء فارغة يبحثان عن ماء يصلح للشرب لأطفاله وأطفال الحارة، وما ان اجتازا ما يُعرف بالشارع "الثاني" في الحي، أطلقت عليهم دبابة إسرائيلية النار، لحق بهما محمد سعيد الغول (أبو السعيد) غير آبه بإطلاق النار وقبل أن يصلهما أطلق قناص إسرائيلي النار عليه وقتله، كما أكد أكثر من شخص من عائلة الغول.
وكان أبو السعيد قد استغل وجود إشارة في هاتفه فاتصل بالإسعاف والإنقاذ وكل ما يعرفه من مؤسسات دولية لكن لا استجابة، فالردود إما سلبية لأن المنطقة "منطقة عمليات عسكرية"، كما أبلغهم الاحتلال أو تأخروا في الوصول بسبب تدمير الطرق أو بسبب إطلاق الاحتلال النار على كل ما يتحرك.
كما قال ابن عم ماهر "نزار الغول"، "كان ماهر وأبو السعيد الغول، وهما ناشطا مجتمع وموظفان في السلطة الوطنية، قد قررا عدم مغادرة غزة وعدم التوجه جنوبًا لأنهما خشيا من تكرار نكبة الشعب الفلسطيني سنة 1948".
وأضاف: "أنه ومنذ الثاني عشر من أكتوبر الماضي، قرر ماهر وأبو السعيد مساعدة المواطنين الذين بقوا في حيهم".
وتابع: "شكّلا ما أشبه بلجنة صمود في الحي لتنظم الطوابير على المخابز قبل قصفها وتوفر الماء الصالح للشرب والطعام وأدوية الأمراض المزمنة للعائلات التي قررت عدم المغادرة".
وفقًا لنزار، بقيت جثث الشهداء أبو السعيد وماهر ومحمد ملقاة في الشارع لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها لمدة 3 أيام بسبب تمركز القناصة الإسرائيليين، ثم نقلهم الجيران ودفنوهم في ساحة مستوصف الشيخ رضوان بالقرب من مكان استشهادهم.
وأشار ابن عمه إلى أن 80% من عائلة الغول في مدينة غزة ومخيم الشاطئ رفضوا الخروج من غزة، وشنت الطائرات الحربية عدة غارات استهدفت فيها بيوتًا لعائلة الغول ما أدى لاستشهاد زهاء 70 منهم بين أطفال ونساء ورجال.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها