حدثت تطورات إيجابية نسبيًا في الموقف الأوروبي خلال الأسبوعين الماضيين نتاج مشاهدات الشارع الأوروبي لنتائج حرب الإبادة الصهيو أميركية على أبناء الشعب في قطاع غزة، مما اجبر العديد من الحكومات على التراجع نسبيًا عن مواقفها العمياء الداعمة لدولة إسرائيل اللقيطة. وكونهم لم يعودوا قادرين على الدفاع عنها لارتفاع اعداد الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، فضلاً عن عمليات التدمير الشاملة، التي طالت ما يزيد عن 45% من الوحدات السكنية بين تدمير كامل وتدمير جزئي، فضلاً عن قصف المدارس والمساجد والكنائس، وخروج غالبية المستشفيات عن العمل لنفاذ الوقود، وعدم وجود الكهرباء وانقطاع الماء، وقصف إسرائيل للعديد منها، وتدمير أجزاء من مبانيها وأقسامها.

وهذا التحول جاء بفعل تعاظم الدعم والتأييد من الرأي العام الأوروبي للشعب العربي الفلسطيني. لأنه رأى بام عينه هول المجازر والمذابح الأميركية الإسرائيلية، وانفلات حرب الإبادة من عقال القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، والذي تحدى قرارات وزارات الداخلية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية، ودفع رئيس حكومة بريطانيا لاقالة وزيرة الداخلية قبل اكثر من أسبوع، وحذا بالعديد من الزعماء الغربيين للنزول عن شجرة الدعم المطلق لحكومة التطهير العرقي الإسرائيلية، ودفعها للانزياح نحو خطاب مقبول نسبيًا.

بيد أن الموقف الذي أعلنته أمس السيدة دي سوتر، نائبة رئيس الوزراء البلجيكي شكل انعطافة هامة، حيث أعلنت بشكل واضح "بما أن إسرائيل ترفض وقف اطلاق النار في غزة سنفرض عليها عقوبات وسنحظر استيراد منتجاتها وسنلغي الاتفاقية الأوروبية معها. وسنطالب بمحاسبتها امام المحكمة الجنائية الدولية، واجراء تحقيق شامل في جرائم الحرب المرتكبة". هذا الموقف النوعي والمتميز يعكس تحولاً نوعيًا في الموقف البلجيكي وبالضرورة سينعكس على الأوساط الأوروبية، التي لم تعد بعيدة كثيرًا عن هكذا موقف، ليس حبًا بالفلسطينيين، ولا كرهًا بالإسرائيليين، وإنما لحماية مكانة ومصالح الأنظمة السياسية الحاكمة. لأن تعاظم التأييد في شوارع مدنها وأوساط الرأي العام فيها، أرغم وسيرغم الأنظمة المختلفة على الدفاع عن مكانتها ومصالحها الخاصة، وبالتالي الاقتراب أن لم يكن التماهي مع الموقف البلجيكي.

أضف إلى أن التحول الإيجابي والمنسجم مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني للحكومة البلجيكية، لم يكن ممكنًا دون استشعار الهمس المتزايد في أوساط دول الاتحاد الأوروبي الرافض لحرب الأرض المحروقة الصهيو أميركية. وكما قال دومينيك دو فليبان، رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق على قناة فرانس 24 قبل يومين، ان حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، لا يعطيها الحق بقتل الأطفال والنساء وارتكاب مجازر حرب ضد الفلسطينيين. والحرب لم تبدأ في 7 أكتوبر الماضي، إنما هناك عقود طويلة من الصراع، وتحاصر إسرائيل القدس ومدن الضفة الفلسطينية وتطلق يد المستوطنين، الذين بلغ عددهم في الضفة نصف مليون مستوطن وفي القدس مئتا الف آخرين. والحل ليس باستخدام القوة المفرطة، انما بالذهاب للحل السياسي. واستمرار إسرائيل في حربها اللا أخلاقية تهدد أوروبا كلها، لان انعكاساتها تستهدف المصالح الأوروبية، وهي قد تفتح شهية توسيع دائرة الحرب الحالية في غزة إلى حرب إقليمية، وهذا ليس في مصلحتها.

وهناك ازدياد كبير في أوساط النخب السياسية والثقافية والأكاديمية ورجال القانون، كما أشرنا في زاوية الأمس عن المحامي الفرنسي جيل ديفيز، الذي حشد حتى الان 600 محام من مختلف اقطار وقارات وأديان الأرض للدفاع عن المصالح والحقوق الفلسطينية، وملاحقة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية الأوروبية. وبالتالي نحن أمام صورة مشرقة في الرأي العام الأوروبي، ساهم وسيساهم في الانزياح النوعي لانظمة الحكم في القارة العجوز.
وهذا الأمر يتطلب من القيادة الفلسطينية وسفارات فلسطين المختلفة والجاليات في المغتربات الفلسطينية والعربية والإسلامية توسيع نشاطها وثقلها في أوساط الشارع الأوروبي لأحداث النقلة الكيفية المطلوبة اسوة بالموقف البلجيكي المعلن من نائبة رئيس الوزراء البلجيكي، دي سوتر. والذي بالضرورة سيكتسب مضامين عملية في المستقبل المنظور. لأن نتنياهو وحكومة حربه أعمتهم الهزيمة في السابع من أكتوبر الماضي، مما سيجفعهم لارتكاب المزيد من المجازر الوحشية ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني.