في ستينيات القرن العشرين كتب الروائي السوداني الطيب صالح رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، في حينه كانت الهجرة إلى الشمال الأوروبي الديمقراطي المتطور تعني هروبا من التخلف، من ضغوط العادات والتقاليد البالية، وبحثا عن فرص حياة أفضل ومتنفس للحرية، اليوم السودان يهجر أهله بنفسه نتيجة الاقتتال الداخلي، وفي الأيام القليلة الماضية شهدنا هروبا دوليا وإقليميا جماعيا، الأمر الذي يعني ترك السودان لمصير أسود. عندما كتب صالح روايته لم يخطر بباله أن يحارب السودانيون بعضهم بعضا بهذه القسوة ويدمرون بلدهم بأيديهم، وأن يصبح الهروب من الموت وليس الهجرة إلى الشمال بسبب الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
في الأيام القليلة الماضية، انجلت الصورة أكثر، اندفاع الأطراف المحلية نحو الحرب الأهلية، وهروب الدبلوماسيين الأجانب والعرب وهو ما يعني أن الحرب مرشحة أن تطول وأن تنهك السودان والسودانيين ويتحول الوضع برمته كما حصل في سوريا واليمن وليبيا، هجرة سكانية واسعة، انهيار سياسي واقتصادي، تقسيم وتقاسم السودان إلى عدة مناطق يعادي بعضها بعضا. ومن الواضح بعد هذا الهروب الجماعي لدبلوماسيي العالم أن هناك نوايا لضرب وحدة السودان وشعبه.
ومع ذلك المشكلة ليست كلها مؤامرة خارجية، وربما نعود هنا لأسباب هجرة الطيب صالح إلى الشمال، التخلف وغياب الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، والفساد، والقبلية، جميعها أسباب عميقة للأزمة، وإذا نظرنا لتاريخ السودان المعاصر فإن السودان، الذي نال استقلاله العام 1956، قد حكمه عسكريون تحولوا إلى دكتاتوريين أبرزهم جعفر النميري، الذي بقي في الحكم 17 عاما (1969 - 1985) ولم يرحل إلا بانتفاضة شعبية، و كذلك الأمر بالنسبة لعمر البشير، الذي حكم السودان لمدة 20 عاما (1999- 2019)، وخلال حكمهما استشرى الفساد وانفصل الجنوب عن السودان وعاش السودان حالات من التمرد ومحاولات الانفصال في إقليم دارفور على سبيل المثال. رغبة جنرالات الجيش فى البقاء حكاما حتى الموت وتناحرهم المتواصل، وما صاحب ذلك من إصرار على إبقاء المجتمع على حالة من التقهقر هو ما أنتج الحرب الأخيرة في السودان.
كما لعب الإسلام السياسي إلى جانب الحكام العسكريين دورا في تعميق هذا التقهقر وتصفية الحياة الثقافية التي كانت واعدة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وما تضمنته من حالة تعددية فكرية وسياسية كان من الممكن أن تحول السودان إلى بلد أكثر تطورا. فالإسلام السياسي وقف إلى جانب الحكام الطغاة من أجل تدمير هذه الظاهرة الإيجابية وتعميق التخلف ومنع أي انتقال للسودان ليصبح دولة ديموقراطية عصرية، دولة حديثة لكل مواطنيه.
السودان هذا البلد الغني القادر على النهوض هو اليوم في أزمة عميقة قد تتحول إلى حرب أهلية طويلة تحرق الأخضر واليابس ومما يؤسف له فإن الشعب السوداني الشقيق إما سيصبح مشردا، ملايين من المهاجرين في أنحاء الأرض، أو فقراء جوعى في بلادهم. والخوف أن تكون الدول الكبرى قد فرضت هدنة مؤقتة بهدف سحب موظفي سفارتها وجالياتها ومن ثم يتركون السودان يواجه مصيره دون أي مسعى جدي من قبلهم لوقف التدهور. ومن الواضح أن الثروة في الدول العربية هي نقمة بدل أن تكون نعمة نتيجة للهدر والفساد الداخلي ومحاولات الأطراف الخارجية النيل من هذه الثروات واحتكارها لما فيه مصالحها.
قد يكون الوقت قد فات للملمة الأوضاع في السودان، خصوصا أن الأطراف المحلية المتصارعة ليس في وارد حساباتها مصلحة شعبهم وبلادهم، أما الأطراف الخارجية فهي متورطة في الوصول إلى الحالة التي وصل إليها السودان، في الغرب يقولون إن مجموعة فاغنر الروسية هي من تشيع الفوضى في أفريقيا والسودان، والروس يقولون إن الغرب الاستعماري هو المسؤول وله تاريخ طويل في زرع الفوضى في أفريقيا والشرق الأوسط. ولكن الأكثر صعوبة للتصدير أن تكون دول عربية أيضا متورطة في زرع الفوضى في دول العربية أخرى وهناك تاريخ قريب وملموس في سوريا، وليبيا، واليمن، وحتى في تونس ومصر وفلسطين، حيث دعم بعض العرب الانقسام الفلسطيني وفصل قطاع غزة عن الضفة، ولعل فلسطين كانت ميدان التجربة الأولى للفوضى الخلاقة حيث تم ويتم تغذية الانقسامات الفلسطينية، ما أنهك الشعب الفلسطيني وأضر بشكل إستراتيجي بقضيته الوطنية. وليس بعض الدول العربية وحسب وإنما دول إقليمية شرق أوسطية كانت جزءا من مخطط نشر الفوضى.
ربما على السودانيين أن لا يهربوا أو يهاجروا ويتركوا وطنهم فريسة لعصابات الداخل والخارج، ربما عليهم الخروج بكثافة إلى الشارع ومنع الاقتتال، وقد يكون هذا هو الحل الوحيد لإنقاذ السودان الشقيق.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها