المصطلح الأكثر انتشارًا وتداولاً للإشارة إلى إنقسامات العالم هو مصطلح الشرق والغرب. ودلالات المصطلح آيديولوجية وثقافية أكثر منها جغرافية، فأستراليا على سبيل المثال تقع في أقصى الشرق جغرافيًا إلا أنها تعتبر ثقافيًا جزءًا أصيلاً من الغرب. وحتى عندما انقسم العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين على أسس اقتصادية اجتماعية، المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، فإن مصطلح شرق وغرب بقي مستخدمًا، فقد صدف أن يكون أغلب المعسكر الاشتراكي متواجدًا من وسط أوروبا ليمتد شرقًا، أما المعسكر الرأسمالي فهو الآخر يبدأ من وسط أوروبا ويمتد نحو الغرب، دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية وكندا.
مفهوم الشرق بمعناه الاستشراقي، يضم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغرب آسيا ووسطها والشرق الأقصى، والمفهوم بدأ في العصور الوسطى مع وجود حضارتين متجاورتين متنافستين، الحضارة العربية الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والحضارة الأوروبية المسيحية. ولكن المفهوم الاستشراقي للشرق بدأ مع بريطانيا الاستعمارية بغرض فهم أديان وثقافات الشرق القريب والبعيد،
بعد ذلك تبنته فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى روسيا، ومع تطور الاستعمار وتمدده تحول مفهوم الشرق ليأخذ مضمونًا عنصريًا يزدري الإنسان الشرقي ويعتبره عرقًا أقل درجة، متخلفًا ومن الصعب أن يتحضر بالمنطق الأوروبي.
مع الحرب الأوكرانية، عاد المصطلح ليبرز مجددًا، ويبدو أن من مصلحة روسيا هذه المرة إبرازه وكأن الحرب تدور بين الشرق والغرب، خاصة عندما بدا أن تحالفًا روسيًا قد نشأ في مواجهة الغرب. وإذا كانت جبهة الغرب متبلورة ويمكن تحديدها بدول حلف الأطلسي بالإضافة إلى أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان، فإن الشرق لا يزال يتكئ على ثلاث أرجل، روسيا الصين وإيران بدرجة أساسية.
وإن كان هذا الانقسام هو الذي يبدو أكثر وضوحًا، بالرغم أنه لا يعكس كل الواقع، فهناك انقسام هو برأي الكثير من المراقبين أنه أكثر واقعية وأهمية، وقد يكون على المدى المتوسط أكثر تأثيرًا على التوجهات المستقبلية للعالم والنظام الدولي، فإما أن يكون هذا العالم أكثر ليبرالية وانفتاحًا وديمقراطية أو أن المجتمع البشري سيمر بمرحلة فاشية سوداء. يسيطر فيها اليمين المتطرف الفاشي والأنظمة الدكتاتورية في جبهة غير معلنة ضد الجبهة الأولى، وهو عالم قد يأخذ البشرية إلى حروب أكثر دموية.
ما جرى ولا يزال يجري في الولايات المتحدة بين الجناح الأكثر يمينية وتطرفًا بل وفاشية في الحزب الجمهوري والذي يقوده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وما شاهده العالم من محاولة انقلاب على الديمقراطية في البرازيل، وما يجري في إسرائيل بين القوى الأكثر يمينية وتطرفًا وفاشية، وبين القوى الليبرالية. والصراع ذاته يمتد في أوروبا حيث يتزايد خطر تعاظم اليمين الفاشي. خصوصًا مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، الناجمة عن تداعيات الحرب الأوكرانية، وعن طبيعة النظام الرأسمالي الذي يخرج عن السيطرة بين الحين والآخر ويدخل العالم بسببها في حالة كساد اقتصادي.
هناك صراع عميق داخل العالم الرأسمالي، فهذا العالم منقسم بوضوح اليوم، لعل شكل العالم الجديد يعتمد كثيرًا على نتيجة هذا الصراع وفي الوقت نفسه على الصراع الذي يدور بين الدول الغربية من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. بهذا المعنى فإننا نعيش مرحلة يتغير فيها العالم بطريقة أكثر تعقيدًا من كون المسألة شرقًا وغربًا فقط، لأن هناك حلفًا قد يمتد من الغرب إلى الشرق يضم كما أشير إليه من قوى يمينية وأنظمة يمينية فاشية مع أنظمة دكتاتورية ترى هذه الأخيرة في اليمين المحافظ أقرب لمصالحها من غرب أو شرق ديمقراطي أكثر انفتاحًا يتم في الداخل ومع الآخر في الخارج، وفي هذا السياق فإن هناك تأثيرًا متبادلاً بين الانقسامات فهي تؤثر على بعضها البعض وقد نضطر لأن نمر بفترة زمنية أطول كي ينجلي الشكل والمضمون الجديد للعالم والنظام الدولي.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها