منذ أن نشأت القضية الفلسطينية عام 1917، مع وعد بلفور، ومنذ أن نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية مع المؤتمر الوطني الأول عام 1919، كانت إحدى معضلات النضال الوطني الفلسطيني هي الانقسامات، وباستثناء حالات نادرة، فقد فشلنا وبسبب هذه الانقسامات في استثمار تضحياتنا سياسيا وتحويلها إلى مكاسب سياسية ذات مغزى يمكن المراكمة عليها لتحقيق اختراق استراتيجي. وفي هذه الأيام هناك تضحيات، مئات الشهداء، ومثلهم من الجرحى والأسرى، إلى جانب الضغوط الاقتصادية التي يدفع ثمنها التاجر والمزارع والعامل، والموظف العمومي الذي لم يتقاض راتبه كاملا منذ عام ونصف العام تقريبا.
ثورات العشرينيات كانت في الغالب عفوية وجاءت كردات فعل أكثر من كونها عملا مخططا، كما أن قيادة الحركة الوطنية، التي كانت في حالة صدمة مثلها مثل الشعب الفلسطيني، عندما اكتشفت أنها تواجه استعمارا مزدوجا، الانتداب البريطاني من جهة، والمشروع الصهيوني الإحلالي من جهة أخرى، هذه القيادة لم تكن مهيأة، وربما غير قادرة على استثمار التضحيات. ولكن المحطة الأبرز، والتي تمثل نموذجا لعدم تحويل التضحيات لمكاسب، هي الثورة الفلسطينية الكبرى، ثورة 1936 - 1939، عندما سلمت قيادة الحركة الوطنية في حينه القرار الوطني الفلسطيني إلى الأنظمة العربية، التي تعهدت بتحصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية من "الصديقة بريطانيا" مقابل وقف الإضراب الكبير، وانتهت هذه الثورة بالفشل، وهو ما شكل مقدمة لنكبة عام 1948
لعل أول محاولة جدية لاستثمار التضحيات، وبطريقة عقلانية حظيت بإجماع وطني فلسطيني هي مبادرة السلام الفلسطينية في خريف عام 1988، في ذروة الانتفاضة الشعبية الأكبر والأهم في تاريخ الشعب الفلسطيني، وذلك عندما أعلن ياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأصدر إعلان الاستقلال. محاولة الاستثمار الأهم والتي مع الأسف تم إجهاضها عمليا مع الاجتياح العراقي للكويت في 2 آب/ أغسطس عام 1990، وما نجم عنه من حرب الخليح الأولى عام 1991، وهي التي أدت إلى تغير كاسح في ميزان القوى في المنطقة والعالم لمصلحة الحلف الداعم لإسرائيل، وبالرغم من أن الجانب الفلسطيني قد صنف في حينه من ضمن معسكر الخاسرين، خصوصا مع انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، ما أدى إلى حرمان منظمة التحرير الفلسطينية من تمثيل الشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد، والجلوس على طاولة المفاوضات على قدم المساواة. بالرغم من ذلك حاول عرفات وقيادة المنظمة ألا تذهب تضحيات الشعب الفلسطيني في الانتفاضة هدرا، خصوصا أن مدريد أصبح يراوح مكانه، فأقدم على اتفاق أوسلو عام 1993، وهو الاتفاق الذي تنكرت له إسرائيل بعد اغتيال رابين في خريف عام 1995.
صحيح أن الظروف الموضوعية والذاتية لا تسمح اليوم بتحويل التضحيات إلى مكاسب وطنية صلبة، إلا أن العامل الأهم في غياب القدرة لتحقيق مكاسب ذات مغزى، هو الانقسام الفلسطيني، وأكثر من ذلك حالة الشرذمة مع غياب أي شكل من أشكال تنسيق المواقف بين الفصائل الفلسطينية، أو معظمها على الأقل. ربما نحن بحاجة إلى أن نصفي نوايانا لبعض الوقت ونقوم بعملية تقييم شاملة بحضور القوى كافة، تقييم ينتج سياسة متفقا عليها ويلتزم بها الجميع، ضمن توزيع واضح للأدوار، وبعيدا عن إملاءات من الخارج أو أن تكون مقاومة الشعب الفلسطيني ودمه خدمة لأجندات خارجية.
قد يبدو أن هذا الاقتراح صعب التحقيق وتمت الدعوة إليه مرارا وتكرارا ولم ينجح، ولكن ولكي نكون صريحين مع أنفسنا، فإنه دون اتفاق وطني شامل على الوجهة السياسية الموحدة لا مجال، وستضيع التضحيات للمرة الألف، بل سيمثل ذلك فرصة أخرى للاحتلال ليعزز وجوده ويتوسع. إن التجارب السابقة لا تدعو لأن نتفاءل كثيراً، ولكن علينا ألا نيأس، وربما علينا أن ننطلق من فكرة ندركها جميعا، أن العدو لا يريدنا أن نتوحد، وهو على استعداد أن يفعل كل شيء بما في ذلك الاتفاق مع دول عربية وإقليمية ودولية، لتساعده وتقوم بدورها لتمزيق الحالة الوطنية الفلسطينية، وهو ما يتم فعلا، وعندما ندرك أن الانقسام هو في أغلبه من صناعة العدو الإسرائيلي ويصب في خدمة مصالحه، قد نصحو ونقوم بمحاولة جادة لإنهاء الانقسام.
قبل النكبة كنا نعلق مشاكلنا الداخلية على شماعة سياسة "فرق تسد" الانتدابية البريطانية. وبعد النكبة ومع تجربة منظمة التحرير الفلسطينية كانت الانقسامات في الساحة الفلسطينية نتيجة التدخلات العربية ورغبة عدد من هذه الدول بالإمساك بورقة القضية الفلسطينية خدمة لدورها الإقليمي، ومع ذلك لم تكن كل الانقسامات لهذا السبب. ومع الانتفاضة الفلسطينية العظيمة التي اندلعت نهاية عام 1987، والتي وحدت الشعب الفلسطيني تماما، تم شق هذه الوحدة الرائعة فورا، عندما تأسست حماس في حينه، وأصرت على العمل منفردة بعيدا عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، ما ساهم في تشتيت الجهد الوطني وإضعافه، وإنهاك المجتمع الفلسطيني واستنزافه.
واليوم وبعد كل هذه التجربة المريرة مع الانقسامات ومفاعيلها السلبية والخطيرة، واليوم ومع إدراكنا وعلمنا بأن هذه الانقسامات من صنع الأعداء ولمصلحتهم، ليس هناك عذر لأحد بألا نتوقف مع النفس قليلا ونقوم بما يغيظ العدو الإسرائيلي أكثر من أي شيء آخر، إلا وهو وحدتنا الوطنية، وعندها فقط يمكن تحقيق المكاسب السياسية ذات البعد الاستراتيجي المهم.
المصدر:الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها