كل دول العالم تشهد حالات هجرة لاعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية أو دينية. ولكن خلفيات عمليات الانتقال من بلد لبلد، لا تؤثر على هوية المواطن الاصلانية، ولا على صلاته العميقة مع جذوره التاريخية، بما في ذلك الانتقال المرتبط بعمليات اللجوء السياسي. لا بل ينقل موروثه الحضاري والثقافي معه إلى بلد المهجر الجديد، ويتمسك به أكثر فأكثر، ويشكل المهاجرون من بلد لبلد كتلة اجتماعية موحدة، تقيم نواديها ومراكزها الثقافية، وتعرض فعالياتها في مناسباتها الوطنية للمحافظة على الذات، من جهة، ولتعريف الاخرين بها، من جهة ثانية. 

لكن في دولة لقيطة، لا جذور لها، ولا ثقافة مشتركة بين مركباتها، وغياب موروث حضاري يجمعها، وتقوم على التزوير واللصوصية، وسرقة موروث الشعب الأصلاني، كما هو الحال في نشوء وتطور الدولة الصهيونية الاستعمارية، فإن العملية تكون عكسية، حيث ينقل المهاجرون من أوطانهم الاصلانية قيمهم ولغاتهم وثقافاتهم وموروثهم معهم للدولة المزيفة، ويدافعون عنها، ويتمسكون بها، ويتخندوق خلفها في مواجهة المهاجرون الاخرين من الدول الأخرى، مما ينجم عن ذلك صراع الثقافات، وحتى صراع الطوائف والمذاهب الدينية، وتناقض المنابت الهوياتية. 

وفي النموذج الصهيوني تصبح الهجرة والعودة للأوطان، التي جاؤوا منها طبيعيًا، حيث يعودوا لمسار حياتهم المعروف لديهم، ولا يعتبرون أنفسهم طيفاً جديدًا بأي معنى من المعاني. وهؤلاء هم الأكثر استعدادًا وقابلية وسرعة للعودة لأوطانهم الأم، التي جاؤوا منها. وبالتالي عند صعود وارتفاع درجة حرارة التناقضات الداخلية أو مع الآخر صاحب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري فيها، فانهم يبادرون لمغادرة دولة المشروع الصهيوني. لأنهم أولاً بتجربتهم يكتشفوا كذبة أرض "الميعاد" أو أرض المن والسلوى والعسل؛ ثانيًا دولة قائمة على مستنقع آسن من التناقضات والتشوهات والاكاذيب، ولا تستقيم مع حملات التضليل، التي استمعوا لها من تجار المشروع الصهيوني قبل مجيئهم؛ ثالثًا دولة لا تستطيع العيش دون حروب، واغتصاب حقوق أبناء الشعب الأصيل والمتجذر في أرضه، الشعب العربي الفلسطيني، الذي تعكس وجوده كل حبة تراب، وكل زاوية من زوايا فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر؛ رابعًا يتأكد لهم، إنه لا يوجد دليل واحد مهما كان صغيرًا أو محدودًا يؤكد مزاعم الرواية الصهيونية المزيفة؛ خامساً يكتشفوا أن مشروعهم آيل للسقوط، ولا يمكن لهم البقاء. لان كل عوامل الهدم تتمثل داخله. والأهم ادراكهم العميق، إنهم ليسوا أكثر من أداة لخدمة أغراض الامبريالية العالمية، وعلى حساب الديانة اليهودية ويهود العالم، وللتضحية بهم؛ سادسًا كما ينتبهوا لحقيقة هامة أن الحركة الصهيونية مغتصبة للديانة اليهودية، ولا تتمثل مصالح اتباعها، وانما هي أداة تنفذ مخطط أعداء اليهودية من دول الغرب الصليبي. 

ارتباطًا بما تقدم، وفي اعقاب تفاقم الأزمة داخل دولة الأبرتهايد الإسرائيلية في إثر نتائج انتخابات الكنيست ال25 مطلع تشرين 2 / نوفمبر الماضي، ومع تبلور إئتلاف الفاشية من اليمين الحريدي المتطرف بقيادة زعيم الليكود الفاسد وانحراف المجتمع في غالبيته نحو تكريس دولة اللاهوت الأرثوذكسية النازية، وانهيار مجموعة القيم الشكلية التي كانوا يتلطون خلفها، لاقناع انفسهم بالبقاء داخل إطار الدولة اللا شرعية، وتسيد قيم الفاشيون الجدد، وشعورهم بفقدان الامن والأمان الذاتي نتاج تفاقم التناقضات الذاتية، ساهم رجل الأعمال، مردخاي كهانا مع غيره من الأقطاب الصهاينة في تأسيس حركة جديدة بعنوان "لنغادر البلد معاً" في تل أبيب، التي تهدف للهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى الولايات المتحدة كخطوة أولى، ودعاهم للإقامة في مزرعته هناك كخطوة أولى، حتى إيجاد موطن جديد. مع العلم أن كهانا كان ممن نشطوا في جلب المهاجرين المضللين لإسرائيل تاريخيًا. لكنه بعد انكشاف الوجه الحقيقي لدولة الموت والجريمة المنظمة، وتفاقم الصراع بين أسباطها وتلاوينها المختلفة غير وجهته، وبات يدعو للخروج من النفق الإسرائيلي المظلم. 

ومع ذلك تحاول إسرائيل ومنظومتها الأمنية والإعلامية التعتيم على ملف الهجرة المعاكسة، وتنقل أخبار الهجرة الوافدة إليها، لتشكل حافز للمضللين الجدد. وتفيد المصادر الإسرائيلية، أن 450 ألف مستعمر صهيوني غادروا إسرائيل كليًا منذ إقامتها. والآن بسبب احتدام التناقضات داخل مركباتها الأثنية والطائفية والمذهبية والاجتماعية، وبين العلمانيين والمتدينين وبين الائتلاف الجديد ومعارضيه، فإن نسبة المهاجرين ستكون بالضرورة في تزايد مضاعف مع كل يوم جديد. لأن الدولة تمضي قدمًا نحو فنائها. ويمكنني الجزم النسبي، بأن اندثار الدولة اللقيطة لن يكون بعيدًا، بل قريباً وفي المدى المنظور.