كتب إليّ صديقي الألماني توماس بارف، وهو صائغ مجوهرات يعمل في ورش المعادن الثمينة، وقد عرفته حين ذهبت إلى ألمانيا، فأجّرني إحدى غرف بيته، وعرفت منه، وعبر سلوكه، بعض الطباع الألمانية، ووقفت على بعض ما يفكرون به، وبعض ما يستخدمونه من طرائق التفكير، كتب إليّ ردّاً على ما حدّثته عنه، أيّ عما يحدث داخل بلادنا العزيزة فلسطين، منذ بداية هذا العام 2022، وحتى الآن، لأنه أراد أن يفهم أكثر عما يحدث، فاستغرب ما قلته له، فكتب إليّ صارخاً: هذا غير معقول! لعل حبك لبلادك، وعيشك في مخيم للاجئين، يجعلك تبالغ، أو لعل خيبة أملك في كلّ شيء تجعلك ترى الأمور والحادثات بمنظار أسود! أو لعلي أنا لا أستطيع تصديق ما تقوله لفظاعة ما ترويه وتصفه!

قلت، يا عم توماس، أنت ولدت بعد الحرب العالمية الثانية بعشرين سنة، ولم تعش أهوالها، ولكنك قرأت عنها، وعشت آثارها، ومن آثارها هو خلق الكيانات الجديدة، ومنها الكيان الصهيوني، وأنت الآن ترى خرائطها، مثلما ترى القواعد الأميركية المنتشرة في جميع أنحاء أوروبا، وقد أخذت شرعيتها الموهومة باتفاقية (يالطا) وغيرها، نحن كفلسطينيين نعاني من القتل اليومي لأتفه الأسباب منذ عام 1948، وحتى هذه الساعة، ونعاني من صك القوانين والأوامر الإدارية الإسرائيلية التي تعني موت الحياة الفلسطينية وببطء شديد، مثلما تعني إماتة الروح الفلسطينية مع تقادم الأيام؛ لأنّ الاحتلال الإسرائيلي يتغوّل أكثر فأكثر في قوّته وبمباركة غربية لا مثيل لها في عدم احترام القوانين وحقوق الإنسان. يا عم توماس، الأطفال في مدينتي جنين ونابلس، ومنذ أول هذه السنة 2022، وطوال أيام العام الدراسي لا يدرسون وجاهةً، أيّ لا يلتقون بأساتذتهم، ولا يصلون إلى مدارسهم لأن القوات الإسرائيلية تحاصر كلّ شيء، ومنها المدارس والمشافي، إنهم يتعلّمون في البيوت، وعن بعد! وهم لا يعيشون حياة الأطفال ومتطلباتها؛ لأنّ الجنود الإسرائيليين يحولون بينهم وبين الذهاب إلى المدارس، والحدائق، والمنتزهات، والأمكنة التي يتعلمون فيها اللغات والموسيقى، ويمارسون فيها هواياتهم! أطفالنا يعيشون حياة الشكوى والأسئلة، والخوف، لأنّ الإسرائيلي يبعث، ويزرع، ويمارس، وينمّي ثقافة اسمها: ثقافة الخوف أو ثقافة الإخافة! وأنتم، أهل الغرب، تعلمون كلّ صغيرة وكبيرة يمارسها الإسرائيلي بحقّ الطفل الفلسطيني كي يعيش في دائرة اسمها دائرة الخوف منه، كي يظل منحنياً، وطائعاً، ومذلولا في (حضرة) الإسرائيلي. وأنتم أهل الغرب أردتم فتح مراكز لتعليم الموسيقى لأطفالنا، وأنفقتم عليها، ولم تسألوا سؤالاً جوهرياً فحواه: أليس من الأجدى أن نعلّمهم كيف يحبون بلادهم، وكيف يعرفون معنى الوطن والسيادة!

يا عم توماس، وبلا مبالغة، وبلا دقة مؤكدة أيضاً، لدينا حوالي 70 ألف طفل فلسطيني تعرضوا إلى الاعتقال الإسرائيلي، خلال العقود الثلاثة الماضية، وعرفوا المعتقلات والسجون الإسرائيلية، والمحققين الإسرائيليين، والضرب والجلد والتغطيس بالماء البارد والساخن ومسّ أعضائهم بالأسلاك الكهربائية، وهم لم يتعلموا بعد ألفباء الحياة؟!

هؤلاء الأطفال، وعددهم كبير، كما ترى، كبروا، وتزوّجوا وأسّسوا أُسراً لهم، وهم يرون الآن طفولة أبنائهم تتكرر مشاهدها أمامهم في الاعتقال، والتحقيق، والإذلال، والإهانة! ألا تقولون أنتم أهل الغرب إنّ المستقبل هو الأطفال؟ هذا هو مستقبل أطفالنا، لذلك، يا عم توماس، لا تستغرب أن شاباً فلسطينياً عمره 18 سنة، وفي الصّباح الباكر، وحين يواجه الجنود الإسرائيليين في محطة للوقود، أو محطة للحافلات، يقتلونه بمئات الطلقات، وهو في طريقه إلى مدرسته! ويقتلون أحلامه التي تخبرنا بها أمّه الباكية، بأنه أراد أن يكون مهندساً ليبني ما دمّره الجنود الإسرائيليون.

يا عم توماس، منذ عام 2015، أيّ منذ أحداث القدس، اعتقل الجنود الإسرائيليون 9 آلاف طفل، وهؤلاء تعرضوا لأبشع أنواع الإخافة والترهيب، وهؤلاء أيضاً سيكبرون عما قريب، ويتزوجون، ويؤسسون، أُسراً، وينجبون! ولهذا أنت  ترى هذه الحياة وهي تسير عبر هذه الدائرية المهولة، هذه هي حياة أطفالنا! وأقول لك أيضاً إنه ومنذ بداية هذا العام 2022، اعتقل الإسرائيليون 770 طفلاً، وهؤلاء سيدخلون دائرتين اثنتين، هما دائرة الإرهاب والعنصرية والإخافة الإسرائيلية، ودائرة الحلم بأن يبنوا وطناً عزيزاً له سيادته التّامة!

وخلال الشهرين الفائتين، يا توماس، اعتُقل 119 طفلاً فلسطينياً وهم ما زالوا في المعتقلات والسجون الإسرائيلية حتى الآن.

ما أخبرك به، يا صديقي توماس، ليس مبالغة، ولا يعبر عن فورة غضب طائشة أبداً، ما أخبرك به يمثل جرائم تدمر تربية أطفالنا، وهي جرائم تحدث أمام عيون العالم الذي لا يحرك ساكناً! لأنّ سياسة الغرب العمياء تساند الإسرائيليين، وتشجعهم على ممارسة مثل هذا الأسلوب العنصري! لا قانون يطبق هنا في الكيان الإسرائيلي، يا توماس، ولا اعتراف بالشرعية الدولية، ولا بحقوق الإنسان!

هنا، يا توماس، طفولةُ أبنائنا تُذبح، وبراءتهم تُقتل، وأحلامهم تُمحى، على يد الجنود الإسرائيليين، وهنا أسألك، يا توماس، لو أنّ ابنك كارل، ابن الاثنتي عشرة سنة، جُرّد من طفولته وبراءته، وأحلامه، لو أنّ الخوف ملأ قلبه وهو ذاهب إلى المدرسة، أو الحديقة، أو حانوت البقالة، قل لي بربك ما الذي ستقوله أنت عمن جرّدوه من كلّ هذا؟! وما الذي ستقوله عن المستقبل الذي سيكون له!

توماس، ما يفعله الجنود الإسرائيليون بأطفالنا لا يحتاج إلى مبالغة في التعبير عنه، لأنّ توحّش الجنود مكشوف لكلّ من يملك عينين وضمير، وهم، أعني الجنود الإسرائيليين،  يُقابلون بشجاعة وجسارة وصمود من سُرقت حياتهم وأحلامهم، لأنّ حياتهم وأحلامهم هي وطنهم، وهم يريدون استعادتها، واستعادته!

 

ملاحظة أخيرة: قبلاتي لـ كارل، يا توماس العزيز.

المصدر: الحياة الجديدة