رحلت الملكة اليزابيث، الأطول حكما في تاريخ بريطانيا، ولعلي من بين كثيرين امتدت أعمارنا مع وجود هذه الملكة من البداية وحتى وفاتها مساء الخميس الماضي. كنا نعلم أنها ملكة بلا سلطات فعلية، لكنها كانت ذات تأثير معنوي، ولمنصبها رمزية كبيرة بالنسبة للبريطانيين والعالم، فهي وإلى جانب بريطانيا فإنها ملكة 14 دولة أخرى من بينها استراليا وكندا، وهي مسؤولة عن رابطة دول الكومنولث.
لم تكن الملكة اليزابيث تدلي بآرائها السياسية، لتبقى هي ومنصبها فوق أي خلاف واختلاف، ولكن وبما يتعلق بنا كفلسطينيين، فإن الملفت أنها لم تقم بزيارة إسرائيل، بالرغم من أنها زارت معظم الدول ومن بينها الأردن الملاصق لإسرائيل. هذا الموقف يعتبر غريبًا لأن بلدها هي صاحبة وعد بلفور وعملت بكل السبل لإقامة إسرائيل. هل كانت تريد إبعاد نفسها ومنصبها عن انتهاكات الدولة العبرية السافرة للقانون الدولي، ليبقى هذا المنصب نظيفًا غير ملوث بجرائم السياسة الاستعمارية لبريطانيا والتي تمثل إسرائيل أبشع صورة له؟
ومما يؤكد هذا الاستنتاج أن الأمير تشارلز، الذي أصبح ملكا الآن، قد أصر خلال زيارته لإسرائيل عام 2018، أن يزور الأراضي الفلسطينية أيضًا، للتأكيد أنها أرض فلسطينية محتلة، وهو الأمر الذي أغضب إسرائيل في حينه. وكان الأمير قبل ذلك يرفض زيارة إسرائيل، لأن هذه الزيارة قد تحسن صورة الدولة العبرية أمام العالم، وهو ما لا تقبله العائلة المالكة البريطانية على نفسها قبل أن يحل السلام الحقيقي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
على أية حال ردة الفعل الدولية على رحيلها تؤكد أن الملكة اليزابيث نجحت في الحفاظ على احترام ووقار رمزية المنصب، وكانت تسير بين خيوط السياسية دون أن تتعثر بأي منها، وبالفعل بقيت فوق الصراعات داخليًا وخارجيًا، بل كان مطلوبًا دورها في أحيان كثيرة من أجل إيجاد الحلول. كانت امرأة صلبة من حيث القدرة على التحمل، رحلات الصيد في ظروف مناخية يصعب تحملها، ربما كان تحدي قسوة الطبيعة أحد أشكال شعورها الحقيقي بأهمية وجودها، الذي كان لفترات طويلة يبدو وجودًا مملاً بسبب طبيعة الدور الرمزي في الحياة العامة.
الملكة اليزابيث جاءت في لحظة تاريخية كانت بريطانيا العظمى قد فقدت امبراطوريتها، التي لم تغب عنها الشمس، تمتد من أقصى غرب أوروبا إلى جنوب شرق آسيا، تسيطر على البحار والممرات وطرق التجارة العالمية. جاءت اليزابيث بعد حرب عالمية ثانية، وإن بدا أن بريطانيا أحد المنتصرين فيها، إلا أنها كانت دولة منهكة مفلسة فقدت مخالبها الاستعمارية، وبدأت مستعمراتها تستقل عنها الواحدة بعد الأخرى.
لقد شهدت الملكة اليزابيث تاريخ أفول نجم بريطانيا العظمى، وبروز دول أخرى، ومع ذلك حافظت الملكة على التقاليد الإمبراطورية، وربما ساعد هذا السلوك في إبقاء بريطانيا دولة كبرى، تحتل المركز الرابع أو الخامس بين أكبر الاقتصاديات العالمية. قد يكون هذا عزاءها في كونها أبقت بلادها بين الكبار وأحد اللاعبين المؤثرين في السياسة الدولية.
لم يعرف العالم رأي الملكة اليزابيث فيما يخص مسألة خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي مؤخرًا، لكنها كانت تختار ما تختاره أغلبية الشعب البريطاني، وتقبل هذا الاختيار بغض النظر عن رغباتها ومواقفها الشخصية التي لا تعلن عنها أبدًا. ربما بعد سنوات من رحيلها قد يتسرب الكثير عن آرائها ومواقفها الحقيقية سواء في السياسة أو بخصوص ما كان يدور من مشاكل داخل العائلة المالكة، سواء ما تعلق منها بالأميرة ديانا أو ابنها المتمرد الأمير هاري.
سبعون عامًا من عمري وأنا اسمع وأقرأ عن الملكة اليزابيث، وأعتقد أننا سنقرأ المزيد عنها في كتب التاريخ، إن أطال الله في أعمارنا نحن الجيل الذي عاصرها من البداية وحتى النهاية، ربما يسعفنا الحظ أكثر ونشاهد ما لم يعرض بعد من مسلسل The Crawn، " التاج" الذي يتناول سيرة حياة الملكة الراحلة.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها