(في ذكرى استشهاد القائد "أبو جهاد" نؤكّد إعتزازنا بإرثه الذي صنع لنا مجدًا وتاريخًا مشرّفًا، مجدّدين العهد بأن تضحيات شهدائنا الأبرار ستبقى سراجًا وهّاجًا ينير درب أجيالنا المتعاقبة لمواصلة الفعل الكفاحي النضالي)
أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن وكل بقاع الشتات،
لا يمر شهر نيسان علينا عابرًا، فهو شهر الوفاء لقادة وطنيين خطّوا بدمائهم الطاهرة تاريخ ونضال شعبنا في صفحات التاريخ الخالدة. وعلى بعد أيام من ذكرى اغتيال الكمالَين والنجّار تحضرنا اليوم ذكرى اغتيال نائب القائد العام لقوات الثورة، مهندس الانتفاضة الأولى الشهيد القائد خليل الوزير "أبو جهاد" الذي خطَّط لعملية الثأر للشهداء القادة الثلاثة.
"لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، كانت عبارته التي تلخص فكره ومبادئه ورؤيته وفلسفته الثورية. فـقد آمن "أبو جهاد"-الذي هُجِّر من بلدته الرملة فتى، فغدا فدائيًا ثائرًا على درب تحرير فلسطين- بمشروعية وحتمية النضال المُتصاعد وصولاً إلى الانتفاضة، وأبى أن يرحل عن هذه الدنيا إلا وهو يكرس مبادئه ونهجه بآخر سطور خطّها بدمائه قبل دقائق من استشهاده للانتفاضة الشعبية ولفلسطين (تحية النضال الملتهب، تحية العطاء المتواصل، والفداء المستمر، إلى إخوتنا المناضلين في قيادة الانتفاضة، وإلى كافة لجان العمل الوطنية في اللجان الشعبية بالمخيمات والمدن والقرى والأحياء، إلى اللجان التي تؤدي مهماتها في هذه الظروف...).
لقد جسّدت مسيرة "أبو جهاد" حكاية بطولة فلسطينية فريدة، فقد كان ذا رؤية وبوصلة واضحة، وصاحب دور وإسهام كبير في مسيرة الثورة الفلسطينية وديمومتها وإنجازاتها عبر جميع محطاتها، بدءًا من انطلاقتها المظفّرة عام ١٩٦٥ ومرورًا بنصر معركة الكرامة في العام ١٩٦٨، والصمود التاريخي في بيروت أمام الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ وصولاً إلى هندسة "انتفاضة الحجارة" عام ١٩٨٧. كما أشرف على تكوين المجموعات العسكرية وتدريب المقاتلين الفلسطينيين واستطلاع الأهداف، وخطِّط ونفّذ العديد من العمليات العسكرية البطولية الدقيقة التي أقضت مضاجع الاحتلال، وأبرزها: عملية نسف خزان زوهر عام ١٩٥٥، وعملية نسف خط أنابيب المياه (نفق عيلبون) عام ١٩٦٥، وعملية فندق (سافوي) عام ١٩٧٥، وعملية الشهيد كمال عدوان عام ١٩٧٨، وعملية ديمونا عام ١٩٨٨، وعملية محاولة السيطرة على وزارة دفاع كيان الاحتلال، وغيرها.
إنَّ هذا الدور الثوري المحوري لأبي جهاد إلى جانب رؤيته وقدرته العسكرية جعل منه كابوسًا بالنسبة للعدو الصهيوني الذي أدرك حجم الخطر الذي يمثله القائد الوزير على هذا الكيان المتهاوي حتى بات يعده الرجل الأخطر في تلك المرحلة، فانبرى يخطط بدقة لعملية اغتياله مُجنِّدًا في سبيل ذلك عشرات العملاء.
وفجر السادس عشر من نيسان من عام ١٩٨٨، بدأ تنفيذ العملية التي قادها رئيس حكومة الاحتلال آنذاك إيهود باراك، حيث وصلت فرق "كوماندوز" إسرائيلية إلى شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاجة في تونس، وأُنزِل عشرون عنصرًا مدرَّبًا من وحدة "سييريت ماتكال" من أربع سفن وغواصتين وزوارق مطاطية وطائرتين عموديتين للمساندة، وانتقلت الفرق إلى ضاحية سيدي بوسعيد، حيث كان يقيم أبو جهاد، وانفصلت الوحدة إلى أربع خلايا، وقُدِّر عدد المجندين لتنفيذ العملية بمئات جنود الاحتلال، وقد زودت هذه الخلايا بأحدث الأجهزة والوسائل للاغتيال.
واقتحمت إحدى الخلايا البيت بعد تسلُّلها للمنطقة، وقتلت الحارس الثاني الشهيد نبيه سليمان قريشان، وتقدمت خلية أخرى مسرعة للبحث عن الشهيد "أبو جهاد"، فسمع ضجة في المنزل خلال انشغاله في خط كلماته الأخيرة التي كان يوجهها لقادة الانتفاضة، فرفع مسدسه وذهب ليرى ما يجري، وإذ بسبعين رصاصة تخترق جسده، ليرتقي في لحظات شهيدًا.
لم تكن جريمة اغتيال أبي جهاد وليدة اللحظة، إنما جاءت بعد مدة زمنية طويلة من الرصد المتواصل لتحركاته بالتفصيل وإعداد العدة العسكرية لساعة الصفر، وعلى أثر أكثر من ٦٠ محاولة اغتيال سابقةٍ له باءت بالفشل. وبالتالي فإنّ هذا الإصرار والاستعداد وحشد هذه الإمكانيات الكبيرة لإنجاح عملية اغتياله كان يعكس مدى الأهمية التي أولاها الاحتلال لتصفية الشهيد القائد خليل الوزير والأهداف والأبعاد الكامنة وراءها، وعلى رأسها إضعاف وشرذمة الثورة عبر تصفية أحد رجالاتها وصناع قرارها الأساسيين ذي الدور القيادي في المسيرة الوطنية لثورتنا إلى جانب رفيق دربه الشهيد الرمز ياسر عرفات، وعقلها الثوري والعسكري ومهندس عملياتها الميدانية، الذي كان عاملاً موحِّدًا وجامعًا لجميع مكوناتها.
شعبنا الصامد على ثرى الوطن وفي مخيّمات الصمود،
في السادس عشر من نيسان رحلَ عنا "أبو جهاد" جسدًا، لكنه أبى إلّا أن يترك سيرةً ومسيرةً ونهجًا راسخًا يتأجّج في النفوس، فما إن ذاع نبأ ارتقائه شهيدًا حتى خرجت جماهير شعبنا بانتفاضة شعبية تواجه بعنفوان آلة الحرب الصهيونية ليستشهد في اليوم نفسه أربعةٌ وعشرون شهيدًا، مؤكدين أنّ" أبو جهاد" لم يكن مجرد قائد بل كان نهجًا وطنيًا خالدًا لا يفنى، وأن شعبنا الفلسطيني الثائر كله "أبو جهاد"، وها هو شعبنا الأبي يؤكّد ذلك كل يوم بمواجهته الاحتلال يوميًا وتنفيذه العمليات البطولية على أرض فلسطين الطاهرة والصمود الأسطوري في مخيّمات الشتات وبتمسكه في كل أماكن وجوده بحق عودته والتفافه حول ممثله الشرعي الوحيد "م.ت.ف" وقيادته الوطنية الشرعية وعلى رأسها سيادة الرئيس محمود عبّاس.
إنَّنا في الذكرى الرابعة والثلاثين لاستشهادِ القائد "أبو جهاد" نؤكّد اعتزازَنا بإرث هذا القائد الوطني الذي صنع لنا مجدًا وتاريخًا مُشرِّفًا، وبذل دماءَه حفاظًا على الهوية الفلسطينية، مجدّدين العهد بأنَّ تضحيات شهدائنا الأبرار منذ فجر كفاحنا العتيد وحتى اليوم دفاعًا عن الأرض والإنسان والهوية ستبقى سراجًا وهاجًا ينير درب أجيالنا المتعاقبة لمواصلة الفعل الكفاحي النضالي، وسيبقى القسَم والوعد الذي قطعه الشهيد الرمز ياسر عرفات وقادتنا المؤسسون يوم انطلاقة الثورة عهدَنا وقسَمنا، وستبقى "فتح" ثورةً حتّى النّصر والتحرير والعودة ورفع عَلم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس وأسوار القدس.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار
والشفاء لجرحانا الميامين
والحرية لأسرانا البواسل
وإنّها لثورةٌ حتّى النّصر والتحرير والعودة
إعلام حركة "فتح" - إقليم لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها