عندما أراد ثيودر هيرتسل تسويق مشروعه الصهيوني بين اليهود، كانت الفكرة الرئيسية، أن الدولة اليهودية حاجة عالمية، وكان يقصد بالضبط حاجة أوروبية من أجل حل "المسألة اليهودية" التي ازدادت تفاقمًا في القرن التاسع عشر مع ترسخ الدول القومية الأوروبية. هرتسل أراد القول، أن الدولة اليهودية تمثل خلاصًا لأوروبا من عقدة الذنب بسبب اضطهاد اليهود، بمعنى تصدير المشكلة إلى مكان آخر، وهي حاجة لليهود للخلاص من الاضطهاد المزمن.
خطورة خطوات التطبيع الأخيرة، التي قامت بها بعض الدول العربية، أنها أثرت سلبيًا على فكرة أن الدولة الفلسطينية حاجة وضرورة لاستقرار الشرق الأوسط والعالم. والمعروف أن من بين أهداف نتتياهو هذه الفكرة بالتحديد، أن الشرق الاوسط يمكن أن يستقر ويرتبط بعلاقات تعاون بدون الحاجة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. لذلك هو كرس منهجه في السياسة الإسرائيلية لتدمير عملية السلام التي بدأت في أوسلو، وعمل كل شيء ليثبت أن الدولة الفلسطينية ليست ضرورية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ومع الأسف ساعدته في ذلك دول التطبيع.
صحيح أن الأزمات العربية، التي تفجرت مع الربيع العربي وتفاقمها، بالإضافة إلى احتدام صراع مشاريع النفوذ الإقليمية، قد أدت إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وإظهار بأنها ليست هي العامل الرئيس في عدم الاستقرار، إلا أن العالم بقي يدرك أن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو المسبب لكل هذه التداعيات. إسرائيل وبالتحديد وجهة نظر نتتياهو لتطور الأمور، هي المستفيد الأكبر، خصوصًا عندما جاءت إدارة أميركية، إدارة ترامب تشجع وتدعم مثل وجهة النظر هذه بأن الدولة الفلسطينية لم تعد ضرورة وحاجة، وهذا هو جوهر صفقة القرن بأن يطبع العرب دون دولة فلسطينية.
عندما طرح هرتسل مشروعه الصهيوني، كانت الظروف الأوروبية ناضجة تمامًا له، وكانت بريطانيا القوة الاستعمارية الأهم جاهزة لالتقاط هذا المشروع واستخدامه لما يحقق طموحها الاستعماري. واليوم نتنياهو يعتقد أن المنطقة جاهزة للتخلي عن الدولة الفلسطينية، ومع الاسف فإن بعض العرب وصل إليهم نتتياهو بفكرته، مع بعض بهارات المصالح الأمنية والاستثمارية المشتركة فكان سقوطهم بالخطأ التاريخي.
انتفاضة القدس، بالرغم من تجاهل قنوات المطبعين لها، قد أثبتت زيف هذا الوهم، وأن شرارة واحدة من شرارات القضية الفلسطينية يمكن أن تشعل المنطقة، وأن تشعل دولة نتتياهو قبل غيرها، لذلك الدولة الفلسطينية لا تزال ضرورة لاستقرار الشرق الأوسط والعالم. من هنا تمسك العقلاء بمبدأ حل الدولتين. على عكس جنون ترامب، الذي لم ير إلا مصالح صديقه نتنياهو.
وبرغم التطبيع، المنحرف عن المسار الطبيعي للتاريخ، فإن الدولة الفلسطينية ستبقى ضرورة وحاجة عالمية، وأن هذه الحاجة ستكون أكثر وضوحًا في المرحلة القادمة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها