لقد سجّل الحادي والعشرين من شهر آذار العام ١٩٦٨، نقطةً فارقةً في مسيرة الثورة الفلسطينية، ففي ذلك اليوم المجيد جاءت ملحمة معركة الكرامة التي خاضها فدائيونا البواسل كتفًا إلى كتفٍ مع أشقائنا في الجيش العربي الأردني في بلدة الكرامة الأردنية، ومخيم الكرامة في غور الأردن، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي الغاشمة، لتعيد للأمة العربية كرامتها بعد هزيمة العام ١٩٦٧، وتحطّم أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، وتسطّر معادلة جديدة في المواجهة، قوامها أنَّ التلاحم العربي والإرادة والعمل والإيمان الصادق بحتمية النصر مجتمعةً كفيلةٌ بهزيمة أعتى الآلات العسكرية.

 

ففي تلك الفترة التي كانت تسيطر فيها روح الهزيمة والانكسار على أمتنا العربية بعد نكسة حزيران عام ١٩٦٧، ورغم كل الظروف والأجواء المحبطة، وعدم تكافؤ ميزان القوى بين عدو مجهّزٍ بشتى معدّات التسليح من طائرات ودبابات ومدفعيات وترسانة عسكرية كبيرة، وبين رجال فدائيين سلاحهم الإرادة والعزيمة، كان الخيار صعبًا، ولكن قرار قيادة حركة "فتح" والشهيد ياسر عرفات كان خوض غمار معركة الكرامة دون تردّد، إيمانًا بضرورة استعادة الروح المعنوية وانتشال الأمة من حالة الإحباط التي تعيشها، وعملاً بالمسؤولية الوطنية الملقاة على حركة "فتح" التي كانت الجماهير تعقد الآمال عليها، وتصديًا لمخطط الاحتلال الإسرائيلي بإنهاء وجود الفدائيين في بلدة الكرامة وجوارها، وإبعادهم عن حدود فلسطين. 

 

وجهًا لوجه كانت المواجهة قبل ثلاثة وخمسين عامًا في معركةٍ استبسل فيها فدائيونا وقوات الجيش الأردني وأهالي القرية أمام جحافل الحشود العسكرية الإسرائيلية بأسراب طائراتها ومدفعياتها وكتائبها التي حاولت التقدم لاحتلال الضفة الشرقية لنهر الأردن، وتعمدت قصف مواقع قوات الإنذار والحماية الأمامية والهجوم على الجسور في المنطقة، ولكنها فوجئت بمقاومةٍ عنيفةٍ وتصدٍّ جبّار من أبطالنا رغم القصف الجوي والمدفعي، ما أجبر الاحتلال على طلب وقف إطلاق النار في مرةٍ هي الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ليسحب خسائره من أرض المعركة، ثم يعاود الانسحاب الكامل بعد معركة استمرت أكثر من ١٦ ساعة جراء ما تكبّده من خسائر فادحة في الجنود والعتاد بفعل قتال الفدائيين وتضحياتهم بأجسادهم التي جعلوا منها قنابل تنفجر في دبابات العدو، وكمائن المقاومة الفلسطينية، والقصف المدفعي الأردني، فعاد العدو يجر أذيال الخيبة والفشل بعد خسارته وعجزه عن تحقيق أي من أهدافه العسكرية والاستراتيجية التي شرع بهذه العمليات من أجلها، وليعترف العدو لاحقًا بالهزيمة التي لحقت به، حيثُ بلغت حصيلة خسائره ٢٥٠ قتيلاً و٤٥٠ جريحًا في صفوف الجنود الإسرائيليين وتدمير عشرات الدبابات والآليات العسكرية والطائرات، مقابل نحو ١٨٠ شهيدًا و٢٠٠ جريح من الجانبين الفلسطيني والأردني.

 

لقد كان الصمود والتلاحم الأردني الفلسطيني والتضحية والشجاعة التي قلَّ نظيرها سمات هذه المعركة التاريخية التي مثّلت نقطة تحول في الصراع العربي-الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، وجسّدت حافزًا لاستمرار النضال ودافعًا وطنيًا وقوميًا لانضمام الآلاف من المثقفين والشباب الفلسطينيين والعرب بل وأحرار العالم إلى صفوف الثورة الفلسطينية، وتأشيرة عبور للقضية الفلسطينية لعمقَيها العربي والدولي كما وصفها الشهيد الرمز ياسر عرفات. 

 

  إنّنا في خضم هذه المرحلة الصعبة على قضيتنا ومشروعنا الوطني، وأمام الاستحقاقات الانتخابية التي يتطلع إليها بأمل أبناء شعبنا في الوطن والشتات، فإننا أحوج ما يكون لاستلهام العبرة من هذه المعركة والعمل بها، ألا وهي التعالي عن المصالح الفئوية من أجل المصلحة الوطنية والعمل الصادق لتحقيق الوحدة الوطنية، فبالوحدة فقط موقفًا وعملاً يمكننا التصدي لمشاريع الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانية والتهويدية، وتحقيق أهدافنا المشروعة وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة شعبنا الفلسطيني إلى وطنه الذي هُجّر منه قسرًا. 

 

التحية كل التحية إلى شهداء معركة الكرامة من أبطال شعبينا الفلسطيني والأردني، ولقيادتنا التاريخية صانعة هذا النصر، وعلى رأسها الشهيد الرمز ياسر عرفات، والعهد لشهدائنا بأن نواصل المسيرة ملتفّين حول قيادتنا الفلسطينية وفي مقدمتها سيادة الرئيس محمود عبّاس المتمسّك بالثوابت الوطنية، ومتسلّحين بإرادة شعبنا على مواصلة المسيرة مهما بلغت التضحيات.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار

الشفاء لجرحانا الميامين

والحرية لأسرانا البواسل 

وإنَّها لثورةٌ حتّى النّصر والعودة

إعلام حركة "فتح" - إقليم لبنان