اكتست الذكرى الـ58 لانتصار الثورة الجزائرية ثوب العز والفخار والشموخ، التي صادف حلولها أمس الأحد، لاقترانها مع ذكريات المجد والبطولة لتلك الجماجم، التي حلقت من أسرها في باريس إلى ثرى تراب الوطن الجزائري أمس الأول، بعد التمثيل بجثث ورفات فرسان معركة الزعاطشة بالقرب من ولاية بسكرة، شمال شرق الجزائر 1849 وغيرها من معارك الشرف والتضحية، ومحاولات طمس تاريخهم باختطاف جماجمهم، ودفن وإخفاء معالم جثامينهم خلف البحار، إلا ان رواد الذاكرة الوطنية الجزائرية، وفي مقدمتهم المؤرخ وعالم الأنثروبولوجيا، علي فريد بلقاضي وإبراهيم السنوسي، تمكنوا ما بين الصدفة والضرورة من نبش التاريخ والمتاحف الفرنسية بحثا عن رموز ثورتهم المجيدة منذ العام 2011، ووضعوا اليد عليها في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس، وتعزز بالجهود الوطنية مع  تدخل الجهات الرسمية الجزائرية، وبدعم من الشخصيات والنخب الفرنسية اليسارية الديمقراطية، ثم ما حمله اعتراف واعتذار الرئيس الفرنسي ماكرون عام 2017 عن تلك الجرائم العنصرية، التي ارتكبها قادة بلاده الاستعماريون خلال 132 عامًا من الاستعمار الوحشي (1830 /1962)، واعتبرها "جرائم ضد الإنسانية"، أثناء زيارته آنذاك للجزائر، كل ذلك ساهم في العودة الميمونة لجماجم أولئك العظماء من المناضلين بعد 170 عاما من النفي والإقصاء والطمس والقتل المتعمد كل يوم مع إبقائهم أسرى متاحفهم العنصرية.

اختلطت المشاعر في أفئدة الجزائريين بين السعادة والاعتزاز ورفع الرأس عاليًا نحو السماء، وبين المرارة والألم التي ألمت بهم، وهم يستحضرون بشاعة وهمجية الاستعمار الفرنسي، الذي مارس أقذر انواع السادية والفاشية ضد أبطال النضال الوطني، ذرفت العيون دموع الفرح والحزن في آن، وجاشت النفوس بالغبطة والاعتزاز مع وصول جماجم القادة والمناضلين الـ24 لأرض مطار العاصمة الجزائر من اصل الـ 600 مناضل منهم 37 قائدًا. كان لعودة رفات وجماجم أبائهم وأجدادهم الأماجد الى أرض الوطن الجزائري طعم آخر من الحرية والسيادة، وشعور بالاقتدار والبسالة. أولئك الذين جز رؤوسهم عن أجسادهم المتوحشون الفرنسيون بعد التنكيل الوحشي بهم وفي أعقاب معارك الدفاع والشجاعة عن الوطن الجزائري ما بين اعوام 1838/ 1865. 

ذكرى استقلال الجزائر هذا العام مختلفة، وليست كما كل عام منذ 58 عامًا خلت، لأنها عمدت وتوجت بنصر وسيادة جديدة مع هبوط جماجم الأبطال مرفوعة خفاقة في سماء بلد المليون ونصف المليون شهيد عشية الذكرى، حتى فاضت دموع الألم والفرح والنصر، لأن استعادة هذه الجماجم لبعض رموز الثورة الجزائرية، ومنهم: الشريف بوبغلة، قائد المقاومة في منطقة القبائل، وعيسى الحمادي، المسؤول العسكري لديه، والشيخ بوزيان، قائد ثورة الزعاطشة بالجنوب الشرقي، ومستشاره العسكري، موسى الدرقاوي، وسي مختار بن قويدر التيطراوي، ومحمد بن علال بن مبارك، المسؤول العسكري في عهد الأمير عبد القادر الجزائري تعتبر بمثابة مقدمة لاستعادة كل جماجم الشهداء الأكرم منا جميعًا، رموز الثورة، وعناوين البطولة والمجد، الذين ضحوا بدمائهم الزكية قربانا لتحرير وطنهم الأم من الغزاة المستعمرين الفرنسيين.

تجربة استعادة جماجم أبطال الحرية والإستقلال في الجزائر العزيزة شعبًا وحكومة ورئيسًا، تعزز لدى شعبنا الفلسطيني معركة الكفاح من أجل استعادة رفات جثامين شهداء الثورة الفلسطينية من مقابر الأرقام الصهيونية العنصرية. تلك المعركة التي لم تتوقف، ولن تتوقف حتى استعادة آخر جثمان شهيد من مقابر مجرمي الحرب الإسرائيليين. وهذا اقل واجبات الوطنية تجاه من ضحوا بأغلى ما يملكون دفاعا عن الثورة والشعب والقضية والأهداف الوطنية، ولأنهم اشعلوا مشاعل الحرية، وأناروا درب الكفاح التحرري الوطني.

العيد الوطني الجزائري الـ 58، ليس عيدًا للأشقاء الجزائريين فقط، بل عيد للعروبة عموما ولفلسطين خصوصا، لأن ما بين الجزائر وفلسطين من وشائج الأخوة والكفاح الوطني والقومي، ولما تمثلته الجزائر في العطاء القومي من احتضان الثورة الفلسطينية المعاصرة، وللقيمة السياسية والأخلاقية النبيلة لمقولة الراحل الرمز هواري بومدين "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" أكبر الأثر، وأعظم الاعتزاز بانتصار الجزائر، وستبقى العلاقات مع الجزائر الشقيق من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه منارة ونموذجًا للأخوة المشتركة. وكل عام والجزائر شعبًا وحكومة ورئيسًا بخير.