مطلق عملية سلام لصراع طويل أو قصير تصنعها موازين القوى، وكل اتفاقيات الأرض بين الدول والقوى المتصارعة تحكمها وتقرر فيها موازين القوى والمصالح المشتركة للطرفين. ولا يمكن لدولة أو قوة منتصرة، أو تميل موازين القوى لصالحها القبول بأي تسوية، أو إبرام أي اتفاق إلا بالحصول على ثمن قوتها، وثقلها في المعادلة السياسية.
وإذا توقفنا أمام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأطول في التاريخ المعاصر، نلاحظ أن دولة الاستعمار الإسرائيلية لم تأت برغبتها للسلام، إنما نتيجة تغير موازين القوى لصالح الثورة الفلسطينية المعاصرة، وانكشاف ظهر ووحشية جيش الموت الإسرائيلي طيلة سنوات الانتفاضة الكبرى 1987/ 1993، وانحياز العالم لصالح الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة، وإبداء الغرب الرأسمالي صاحب المشروع الكولونيالي الصهيوني الوحيد، وعلى رأسه الولايات المتحدة القبول بمنح الفلسطينيين الحكم الإداري الذاتي على أرضهم المحتلة عام 1967، وقبولهم في جيوبوليتك الإقليم والخارطة العالمية، وفتحوا القوس في مؤتمر مدريد 1991 للمشاركة الفلسطينية، التي ببراعة القيادة، والتراخي الأميركي المحسوب باستقلالية الوفد الفلسطيني كفريق أساس في معادلة السلام، والخروج من تحت عباءة الوفد الأردني الفلسطيني المشترك.
غير ان الفلسطينيين شعروا أن حبال مؤتمر مدريد طويلة، وسعوا لاستثمار الانتفاضة بشكل سريع، ما دعاهم لفتح قناة مفاوضات سرية مع دولة الاستعمار الإسرائيلية زمن حكومة اسحق رابين، الذي أشرف عبر شمعون بيريس، وزير خارجيته على مفاوضات أوسلو، التي تم التوقيع عليها في 13 ايلول/ سبتمبر 1993 في البيت الأبيض، التي وضعت ميكانيزمات لتطبيق بنودها على الأرض خلال مرحلة انتقالية مدتها خمسة اعوام، تكون نهايتها في 1999 استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان عودة اللاجئين لديارهم وفق القرار الدولي 194. لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومنذ إعلان رابين نفسه "لا تواريخ مقدسة" وعملية السلام في تآكل مستمر، حتى جاء نتنياهو بحكوماته الأربع وأنهى كل عملية السلام، ودفن اتفاقية اوسلو، وكان شارون مهد الطريق لنشوء وتأسيس إمارة حماس بعد الانسحاب الأحادي عام 2005 من قطاع غزة، التي تكرست بعد الانقلاب الحمساوي الأسود اواسط 2007.
وتصاعد وتفاقم الإرهاب الصهيوني الدولاني على الأرض الفلسطينية مع صعود اليمين المتطرف للحكم بقيادة الفاسد نتنياهو، الذي توج خياره الاستعماري بنفي أي حق لتقرير المصير لغير اليهود الصهاينة مع المصادقة على "قانون أساس الدولة اليهودية" تموز/ يوليو 2018، وبعد أن طرح الرئيس ترامب مشروعه التصفوي للقضية الفلسطينية تحت عنوان "صفقة القرن" مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2017، وتم نقل السفارة الأميركية للقدس، وملاحقة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"،.. إلخ، وبالتالي تعمقت حرب تصفية القضية والمشروع الوطني الفلسطيني بعد الاندماج الأميركي الصهيوني المعلن، ومازالت الحرب مفتوحة حتى الآن.
هذا الاستطراد في توضيح لوحة مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يكن من باب الترف، ولا من باب الثرثرة الزائدة، إنما لتوضيح سياق التحولات في عملية الصراع وفقا لموازين القوى، ونتيجة انكفاء وتراجع عوامل ذاتية وموضوعية أثرت على المكانة الفلسطينية في المعادلة السياسية. ومازالت الكفة تميل بشكل فاضح لصالح إسرائيل حتى اللحظة الراهنة. وعليه فإن إسرائيل الاستعمارية، ليس لأنها تعيش أزمة داخلية خانقة بسبب فشلها في تشكيل حكومة مستقرة نتيجة إفلاس قواها ونخبها السياسية في ثلاث دورات انتخابية برلمانية، وإنما بسبب موازين القوى التي تميل لصالحها.
مع ذلك لم تتوقف المجموعات الإسرائيلية، المدعية رغبتها بـ "السلام" عن ضخ مشاريع متواترة تحت يافطة الرغبة بالسلام. وكلها مشاريع وهمية، كاذبة، لا تمت للسلام بصلة. وهي بمثابة بالونات اختبار للشارع والقوى والقيادة الفلسطينية، ومحاولة منها لبيع الوهم لبعض الفلسطينيين السذج، الذين يطيشون على شبر ماء، ويرددون دون إدراك عميق لمغزى تناثر وتدفق المشاريع الاستسلامية الصهيونية باسم السلام الراكض في مياهها الآسنة. وآخر ما قرأت منها، مشروع أعده كل من ساغي الباز، ود. آفي جارفينكل (ترجمة ابراهيم سمحان)، ويهدف أصحابه:
أولا: قضم أراضي الدولة الفلسطينية بنسبة 6% من الـ22%، الأرض المحتلة عام 1967.
ثانيا: لا يريدون عودة اللاجئين، أو بتعبير آخر، ونوع من "كرم الأخلاق" منهما يقترحان عودة 350 ألف لاجئ على مدار 14 عاما، وكما يعلم الجميع أن المرحلة الانتقالية حدد لها خمس سنوات، وفي الشهور الأولى رفض رابين "التواريخ المقدسة"، بتعبير آخر ضحك على الذقون.
ثالثا: بقاء المستعمرين في أراضي الدولة الفلسطينية المكتظة بالسكان، تحت ذريعة حصولهم على الجنسية الفلسطينية، والتزامهم بالقانون الفلسطيني، وهذا مرفوض جملة وتفصيلا، لأنه يتنافي مع أبسط شروط السلام.
رابعا: يريدون تقسيم الحوض المقدس، وهذا مرفوض، وغير مقبول. إذًا هو مشروع كاذب، لا علاقة له بالسلام، بل هو عرض شروط استسلامية.
باختصار ما لم توافق دولة الصهيونية العالمية ومن خلفها أميركا والغرب الرأسمالي على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 19667، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194، والمساواة الكاملة لأبناء الشعب الفلسطيني في دولة إسرائيل، وإلغاء قانون "القومية الأساس" لن يكون هناك سلام. وكما يعلم الجميع أن الشعب والقيادة الفلسطينية قبلوا بأقل من نصف ما منحهم إياه قرار التقسيم الدولي 181 الصادر في تشرين الأول/ نوفمبر 1947، وخمس حقهم التاريخي في أرض وطنهم الأم فلسطين. ومن يتساوق مع هكذا مشاريع خارج عن الإرادة الوطنية الفلسطينية كائنا من كان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها