في هذا الوقت العصيب من تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، تبرز قضية مصطنعة تتعلق بموضوع الانتخابات الفلسطينية. علماً أن الانتخابات الفلسطينية جرت في العام 1996 عندما فاز الرمز ياسر عرفات، وأيضاً في العام 2005 بعد استشهاد القائد التاريخي ياسر عرفات، وفي العام 2007 عندما قررت حركة حماس المشاركة في الانتخابات التي هي جزء من ترتيبات اتفاق أوسلو، ويومها فازت حركة حماس في المجلس التشريعي، بينما فاز الرئيس محمود عباس في الانتخابات الرئاسية، وكلَّف الرئيس الاخ اسماعيل هنية لتأليف الحكومة الفلسطينية، والتي هي دستورياً حكومة الرئيس، أي أنَّ برنامجها السياسي المعتمد يتطابق ولا يتناقض مع برنامج الرئيس أبو مازن كرئيس للسلطة، والمنظمة، والشعب الفلسطيني.
وعندما أعلن الرئيس عن البدء بوضع الترتيبات لإجراء الانتخابات الفلسطينية عند عودته إلى أرض الوطن، فوجئ الجميع بأن هناك مبادرة أقرتها ثمانية فصائل فلسطينية، وهي تتعلق بموضوع الانتخابات وإجرائها. قيادة المنظمة إعتبرت أنه لا ضرورة لمثل هذه المبادرات لأن القوانين والأصول التي حكمت الانتخابات السابقة حسب الدستور الفلسطيني هي التي سيتم إعتمادها حتى لا ندخل في صراعات وخلافات داخلية جديدة تطيح بالاستحقاق الانتخابي.
وبالتالي فإن تسويق مبادرة جديدة تتضمن بعض القضايا الخلافية وهي أشبه بالألغام التي ستثير حالة من الجدل، التي لا جدوى منها سوى تعطيل التنفيذ، وافتعال انقسامات جديدة داخل الصف الفلسطيني. ومن هذه القضايا الخلافية التي سبق أن تمَّ حسمها من قبل منظمة التحرير، وعلى سبيل المثال: لقد جاء في البند الثاني من المبادرة:
"والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية والرقابة على عملها وفق القانون!!" والسؤال هنا عن أي قانون تتحدث المبادرة؟ طبعاً هي تعني القانون الأساس للسلطة الوطنية الفلسطينية، وحسب هذا القانون فإنَّ الرقابة على أي حكومة للسلطة الفلسطينية من صلاحيات المجلس التشريعي، وهذا يعني حسب النص الوارد في مبادرة الفصائل الثمانية أن المجلس التشريعي ما زال قائماً، وهذا طعن بقرار السلطة القضائية والمحكمة الدستورية التي حلَّت المجلس التشريعي بقرار واضح، خاصة أن هذا المجلس لم يجتمع، وهو معطَّل منذ أن تم الانقلاب في قطاع غزة العام 2007، القرار الذي صدر كان بتاريخ 2018/12/12. إنَّ هذا الاجراء الوارد في مبادرة الفصائل كفيل بتحطيم كافة مكونات منظومة قوانين السلطة الوطنية، وبنية مؤسساتها. فالمجلس التشريعي انتهى بقرار من المحكمة الدستورية، ولا يجوز لأي جهة إحياؤه، إلاَّ بانتخابات جديدة شاملة.
عندما نتحدث عن الانتخابات، فإننا نتحدث عن حقوق وطنية مشروعة للشعب الفلسطيني وليس منةً من القيادة، والحرص على تنفيذ برنامج الانتخابات متكاملاً وحسب الأصول، وضمن ما تسمح به الظروف القاهرة تحت الاحتلال، فإن ذلك استحقاق وطني لتفعيل الدور الجماهيري في مقاومته للاحتلال، ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك فريقاً سيربح وعليه أن يتسلم القيادة بأمانة وطنية، ومن أجل خدمة الشعب، كما أنَّ هناك فريقاً لن ينجح في الانتخابات بحكم النتائج، لكن هذا لا يعني إطلاقاً بأن الفريق الذي لم يحالفه الحظ سيكون على الهامش، ولا دوراً وطنياً له، لكنَّ المنطق الانتخابي والسياسي يقول إِنَّ هذا الفريق يجب أن يؤدي دوره كمعارضة وطنية، حريصة على التعاون مع الفريق الآخر، والاهتمام دائماً بتصويب المسار السياسي والنقابي والاجتماعي، ويأتي ذلك من خلال الدور الايجابي في رأب الصدع، والتكامل في الأداء والمراقبة، على اعتبار أن المصالح الوطنية تعني كلَّ الشعب بكل قواة الحزبية، وشرائحه الاجتماعية، ومذاهبه، وأطيافة. وهنا تكون قمة الابداع والوفاء للوطن، لأن الجميع من فاز ومن لم يفز له دور في صناعة الحاضر والمستقبل خاصة إذا كنا جميعاً تحت الاحتلال.
إنَّ الحقيقة الدامغة والناصعة في هذه المرحلة، وأمام هذا الاستحقاق الانتخابي الوطني، هي أنَّ معيار الوفاء والاخلاص للشهداء يكون في تذويب التناقضات، وطي صفحة الانقسام الأسود الذي شكَّل سيفاً حاداً يستقوي به الاحتلال علناً، لتدمير ساحتنا، واستنزاف قدراتنا، وتفتيت صفوفنا.
إنَّ إعادة اللحمة للجسد الفلسطيني لا تتم بالانقلاب، ولا بالانقسام، ولا بتسعير نار الفتنة، وإنما السبيل الوحيد الشرعي والقانوني والأخلاقي والوطني، هو إجراء الانتخابات بنزاهة متناهية، وتقبُّل النتائج واحترامها، والتعامل معها بايجابية مطلقة، لأن الشعب هو الذي قرَّر، وهو الذي أفرز هذه النتائج التي تمت تحت سلطة القانون، والنظام والمصداقية.
آن الأوان أن نحكِّم شعبنا الذي قدَّم التضحيات الهائلة من شهداء، وأسرى، وجرحى، وتعرَّض للمجازر والمذابح والمآسي، قدَّم الغالي والنفيس وما يزال، من أجل أن تستمر الثورة حتى النصر. شعبنا لم يتردد يوماً في حماية ثورته، والدفاع عن قضيته، والتمسك بمبادئه، واليوم من حقه علينا أن نقف كفصائل، جميع الفصائل أمامه إحتراماً، وأن نقدِّم له التحية، وأن نسمح له – وهذا حقه الطبيعي والشرعي – بأن يختار قيادته بنفسه بعيداً عن أية ضغوطات، أو تهديدات، فهو صاحب الحق في تحديد الخيارات، وخاصة عندما تتراكم التعقيدات، وتزداد المؤامرات.
وعندما ندعو إلى السماح للشعب بأن ينتخب ويختار قيادته بحرية، فنحن لا نستجدي أحداً، وانما نعطي الحق لأصحابه، وبالتالي نحن جنود لحراسة شعبنا، وحقوقه المشروعة، ومستقبله الموعود، وحفظ الأمانة التي وضعها في أعناقنا كفصائل.
الحقيقة التي يجب أن يفهمها الجميع، ويجب أن نحافظ عليها، هي أننا تحت الاحتلال، والاحتلال يريد إعطاءنا حكماً ذاتياً محدوداً، وكلُّ ما وافق على تقديمه بعد توقيع إتفاق أوسلو هو السماح بانتخابات لمجلس إداري لتدبير وادارة شؤون السكان فقط، وهو حريص على عدم منح الاستقلال. إلاَّ أن الرمز ياسر عرفات الذي كان يفهم جيداً ماذا يجري من تخطيط لدى الكيان الصهيوني، استطاع أن يحوِّل مجلس الادارة إلى انتخابات للمجلس التشريعي ذات صبغة ديموقراطية وانتصر إلى حد بعيد، إلاَّ أنَّ هذا الإنجاز الوطني والسياسي تعرَّض لضربات قاسية عطلت المسيرة السياسية للعمل الوطني الفلسطيني، وكان ذلك قد حفر عميقاً في المجتمع الفلسطيني، وفي القضية الفلسطينية من خلال، أولاً الانقسام المدمِّر الذي بدأ العام 2007 ولم يزل ينخر عظام القضية الوطنية، وبحيث أصبح السيف الصارم الذي يهدد عنق المشروع الوطني الفلسطيني. وثانياً من خلال الممارسات والخطط الجهنمية والعدوانية الصهيونية التي اعتمدها الكيان الصهيوني من تمزيق واستيطان وتهويد الاراضي الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى شطب، وإلغاء، وتدمير الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي المحتلة العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
لا شك ان العقبات أمام الاستحقاق  الانتخابي الديموقراطي كثيرة منها ما هو من صناعة الاحتلال الصهيوني، كي يبقي صورة المجتمع الفلسطيني مشوَّهة، ومنفِّرة ولا حضارية، ولكن من هذه العقبات ما هو صناعة محلية أو إقليمية، بهدف إسقاط المشروع الوطني الذي أقرته المجالس الوطنية والمركزية، وادخال المجتمع الفلسطيني في صراعات حزبية، أو جهوية، أو فوضى مجتمعية، أو إتهامات أمنية، ومطاردات ساخنة.
ففي الوقت الذي أصدر فيه الرئيس أبو مازن قراره بضرورة إجراء الانتخابات كلَّف رئيس اللجنة المعروف بنزاهته الدكتور حنا ناصر لأجراء المشاورات مع الجميع، وزيارة قطاع غزة لتذليل كافة الصعوبات.
لا شكَّ أنَّ إقالة مجلس بلدي رفح وتعيين طاقم جديد قبل أن تصل اللجنة الانتخابية بساعات، فاجأت كافة الجهات، وخاصة اللجنة الانتخابية، وأيضاً فصائل "م.ت.ف" التي وقَّعت على المبادرة الانتخابية، بأن قيادة حركة حماس أخذت قراراً بتعيين مجلس بلدي في رفح بدلاً من المجلس القائم، واستبدال رئيس المجلس، وهذا ما  أثار حفيظة وغضب كافة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، والتي أصدرت بيانات رفض واستنكار لهذه الخطوة لأنها مؤشِّر خطير ورسالة واضحة بأنها هي صاحبة الحق بالتغيير بعيداً عن الانتخابات، وهذا ما أربك اللجنة الانتخابية، وجعلها أمام خيارات معقدة وغير مطمئنة.
لا شك أن هناك خلافاً واسعاً حول النهج السياسي, وحول أشكال النضال الوطني, حول موضوع تجسيد الشراكة الوطنية, ومن هو صاحب القرار, وهذه قضايا جوهرية لا نستطيع تجاهلها.
والذي يجب أخذه بعين الاعتبار وبسبب وجود الاحتلال، أن هذا الاحتلال الغاشم لن يتخلى عن دوره المعروف في وضع العقبات, ونصب الافخاخ, والتصعيد العسكري والأمني كلما شعر أن هناك محاولة لرأب الصدع واتمام المصالحة, وهو لا يتورع عن استخدام كافة الوسائل والضغوطات لإبقاء الانقسام قائماً، وتأجيج الخلافات الفلسطينية الداخلية كي يُكمل التنفيذ الميداني للسيطرة على القدس، وتوسيع إطار الاستيطان، ومصادرة الاراضي.
بصراحة إنَّ مجال المناورات الداخلية أصبح محدوداً جداً، وعلى الجميع أن يحسم خياراته الوطنية, وليس الخيارات المصلحية الحزبية، فالوطن في خطر كبير، والهجوم الاستيطاني على الأرض متواصل على مدار الاربع وعشرين ساعة. المرحلة مرحلة من يضحي أكثر، ومن يوحِّد الصف الوطني، وليس من يفرّق ويمزق.
ليس أمامنا جميعاً إلاَّ أن نرفع أيدينا وضغوطاتنا عن شعبنا، من أجل أن يختار قيادته بنفسه، وعندها سيسقط الانقسامُ إلى غير رجعة، وستكون ساحة الابطال والشرفاء مفتوحة للصراع ضد الاحتلال.


الحاج رفعت شناعة
عضو المجلس الثوري
2019/10/28