في زمنِ انتشارِ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيّ واختزالِ كلِّ أدواتِ الإعلامِ بهاتفٍ محمولٍ، وفي ذروةِ سيطرةِ الإثارةِ وطغيانِ فنِّ تسويقِ الإشاعةِ لتحلَّ محلَّ الحقيقةِ وتتلاعبَ بالرّأيِ العامِّ وتشوّهَ قناعاتِ عامّةِ النّاسِ وتُفقِدَهُم الثّقةَ بكلِّ ما يحيطُ بهِم، في زمنٍ كهذا يصبِحُ الإعلامُ أكثرَ الأدواتِ التي يمتلكُها الإنسانُ خطورةً، فهو بالفعلِ سلاحٌ ذو حدّين لا بدَّ من التدقيقِ جيّدًا قبلَ الاقترابِ منهُ، والتأكّدِ من أنَّ من يتنطّحُ للتعاملِ معهُ أو بواسطتِهِ من أجلِ إيصالِ فكرةٍ أو رأيٍ أو رسالةٍ محدّدة يمتلكُ بالفعْلِ ما يكفي من الخبرةِ والمعرفةِ لإيصالِ ما يريدُ وكما يريدُ، دونَ أن يكونَ ما يقولهُ أو يكتبُهُ سبباً لقَتْلِ الفكرةِ التي أرادَ أنْ يحشدَ لها التأييدَ. وهنا لا بدَّ منَ التأكيدِ على ضرورةِ أنْ يلتزمَ السّياسيُّ أو المسؤولُ أو صاحبُ أيّةِ قضيّةٍ عامّةٍ بقواعدِ عَملِ وسائلِ الإعلامِ الحديثِ واحترامِها والإلمامِ بها وإدراكِ تأثيرِها.

 

أوّلاً: لا بدَّ منَ الانطلاقِ من قاعدةِ عدمِ الفَصلِْ بينَ العامِّ والخاصِّ، فلا يهمُّ المُتلقّي هل كانَ السيّاسيُّ عندما قالَ ما نُسبَ إليهِ موجودًا في مكتبِهِ أو بيتِهِ أو في مطعمٍ أو مقهى، فمنْ يتنطّحُ للقيامِ بأيّ عملٍ أو مهمّةٍ عامةٍ لا بدَّ أنْ يعلمَ أنْ مجالَ الخصوصيّةِ يتقلّصُ في حياتِهِ لدرجةِ الزوالِ التامِّ أحيانًا.

 

ثانيًا: في عَصرِ الهواتفِ المحمولةِ لا حاجةَ للصحفيِّ المحترِفِ لنقلِ الخبرِ وتعميمهِ، لذلكَ لا بدَّ من التّصرّفُ دومًا وكأنَّ كلَّ ما يصدرُ عنِ المسؤولِ عُرضةٌ للنّشرِ، وهذا ليسَ من بابِ الشكِّ المُفرِطِ وإنّما من مستلزماتِ الحيطةِ والحذَرِ.

 

ثالثًا: يجبُ الانتباهُ إلى نقاءِ اللغةِ ودقّةِ المفرداتِ وبساطتِها وقُدرتِها على النّقْلِ الأمينِ لما يُريدُ المتحدّثُ أو الكاتبُ إيصالَهُ للجمهورِ الصديقِ أو للخَصمِ أو العدوِّ، فاللّغةُ هي وعاءُ الفكرةِ ووسيلَتُها للخروجِ إلى فضاءِ الفِعْلِ. وكلّما تمَّ اختصارُ الأفكارِ ونقْلُها بوضوحٍ صارَ تحريفُها والتّلاعبُ بمضمونِها أكثرَ صعوبةً وسهُلَ على المتلقّي استيعابُها وفهمُ مغزاها.

 

رابعًا: الاهتمامُ بالمظَهَرِ واللّباسِ الملائمِ للمناسبةِ والظّرفِ والبيئةِ المحيطةِ، فلا يجوزُ مثلاً أنْ يذهبَ وزيرٌ للمساهمةِ في موسمِ قطفِ الزّيتونِ مرتديًا بدلةً أنيقةً وربطةَ عنُقٍ تمنعُ الهواءَ منَ الوصولِ إلى رئتيهِ. وفي المقابلِ يجبُ احترامُ المُشاهدِ عندَ الظهورِ في المناسباتِ الرّسميةِ أو في المناظراتِ والحواراتِ المصَوّرةِ، وعلينا عدمُ الاستهتارِ بذوقِ شعبِنا، فهناكَ مثلاً فرقٌ بينَ إطلاقِ اللّحى وبينَ إهمالِ "الحلاقةِ" وما ينتجُ عنها من الظّهورِ بمظهَرٍ رثٍّ يستقطبُ اهتمامَ المشاهدِ وشفَقَتَهُ أحيانًا بعيدًا عن مضمونِ ما يقولُهُ المتحدّثُ. وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ أولَّ مناظرةٍ "متلفزةٍ" قد جَرتْ عام ١٩٦٠ بينَ مُرَشّحَيْ الرئاسةِ الأمريكيةِ جون كيندي وريتشارد نيكسون، ويُجمعُ الخبراءُ أنَّ كيندي قدْ فازَ في تلك المناظرةِ لأنّهُ كانَ أكثرَ وسامةً وأجملَ هندامًا. هذا بالطّبعِ ليسَ دعوةً لتغليبِ القالَبِ على المحتوى، لكنّهُ دعوةٌ لجعلِهما وحدةً متكاملةً نطوّعها لخدمةِ الفكْرة. 

 

خامسًا: على المتحدّثِ الإلمامُ بمزاجِ شعبِنا وتراثِهِ وحساسيّتِه المُفرِطةِ من المساسِ بما يعتبرُهُ محرّماتٍ يُمنَعُ الاقترابُ منها ولو تلميحًا، فليست مهمّةُ السياسيِّ أو المسؤولِ تغييرَ المنظمومةِ الأخلاقيّةِ والثقافيّةِ والقناعاتِ السياسيّةِ لشعبِنا، لأنَّ هذهِ مسألةٌ معقّدةٌ طويلةٌ تحتاجُ إلى عملٍ متكاملٍ يشملُ كلَّ نواحي الحياةِ، أمّا السياسيُّ فأمامهُ في أغلبِ الأحيانِ دقيقةٌ أو اثنتانِ عليهِ الاستفادةُ منهُما لطرحِ رأيٍ أو فكرةٍ مختصَرةٍ، ويُحسِنُ صُنعًا إنْ صَبَّ تركيزَهُ على إنجازِ ذلك.

 

سادسًا: يجبُ الالتزامُ في كلِّ حديثٍ وحوارٍ وتصريحٍ بالخطوطِ الوطنيّةِ الحمراءِ، فلا مجالَ لأَنصافِ الحقائقِ لأنّها بكلِّ بساطةٍ أكذوبةٌ كاملةٌ، ولا يجوزُ التصرّفُ بشكلٍ يناقِضُ السياسةَ العامّةَ أو يَخرجُ عن حدودِ الالتزامِ بما هو معلَنٌ منْ ثوابِت. ندرِكُ تشابُكَ العلاقةِ بيننَا وبينَ دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ، وخاصّةً في المجالِ الاقتصاديِّ، لكنَّ الحفاظَ على الكرامةِ الوطنيّةِ يَسبقُ الفوائدَ الاقتصاديّةِ، وخيرُ مثالٍ على ذلك هو القرصَنةُ الإسرائيليةُ ضدَّ أموالِ المقاصةِ ورَفْضُ القيادةِ ومعها كلُّ الشّعبِ استلامَ الأموالِ منقوصةً لأنَّ في ذلكَ مساسُ بكرامتنا الوطنيةِ التي يشكلُ الشّهداءُ والجرحى والأسرى عمودَها الفقريَّ، ولو كانَ الإقتصادُ هو الأهمُّ لكانَ علينا الخضوعُ للقرصنةِ الإسرائيليّة. نَفْسُ المقياسِ ينطبقُ على قرارِ استيرادِ الزّيتونِ من دَولةِ الإحتلالِ، فلا مجالَ للحديثِ عن مَصلحةِ قطاعٍ اقتصاديٍّ معيّنٍ إذا كانَ ثمَنُ ذلكَ هو هذا الشّعورُ العامُّ بالمرارةِ والإهانةِ نتيجةً لهذا القرار، فالزّيتونُ في فلسطينَ يحتلُّ مكانةً تكادُ أنْ ترقى إلى مرتبةِ التّقديسِ، ففيهِ يكمنُ سرُّ العلاقةِ الأزليّةِ بينَ الأرضِ والإنسان.

 

*قالَ أحدُهُم: "إذا كانَ الكلامُ منْ فِضَّةٍ فالسّكوتُ منْ ذَهَب"، فردَّ عليهِ الفَيلَسوفُ: "يا لَكَ مِنْ أفّاك!". ومعَ ذلكَ فإنَّ إتقانَ بعضِ المسؤولينَ لحِرْفَةِ السُّكوتِ يكونُ أحيانًا أثْمَنَ مِنَ الذّهَب.

 

٤-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان