خمسون خطوة تقريبًا هي المسافة الفاصلة ما بين جريمة جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي المدعي والمستتر بالأخلاقيات، وبين حدث عظيم كان بمثابة ثأر غير المعنى الذي نعرفه لهذا المصطلح كان بطله فتى لا يزيد في السن عن ضحية الجريمة أكثر من خمسة أعوام تقريبًا.
غادرت المستشفى العسكري في غزة مباشرة بعد تقطيب جرح طويل في رأسي رغم الخلل في توازني وعدت ترافقني عائلتي إلى منطقة البوليس الحربي الذي عرف فيما بعد بمفترق الشهداء حيث شقتنا في البرج المطل مباشرة على الموقع العسكري والملاصق له، لكن غزارة النيران منعتني من ايصال عائلتي إلى البيت، فقررت إبقاء العائلة (زوجتي وابني وابنتي الصغيرة حينها) بجوار كلية التربية القريب، وهممت بمحاولة الوصول إلى مبنى المسبكة المجاورة لمتابعة تصوير الأحداث، حيث كان شبان فلسطينيون قد احتموا بجدارها، فيما اختفى حاجز الارتباط الفلسطيني المقابل وسط الدخان والغبار الناتجين عن القصف وإطلاق النيران.. فكان الوصول بسلام إلى المكان كولادة جديدة، رغم ذلك حاولت لكني تعثرت بسبب اختلال توازني فبقيت مراوحًا مكاني أتابع المشهد وتصوير ما أمكن عن بعد.. لم نكن نعلم في اللحظة ذاتها أن وراء ستار الدخان والغبار ضحية سيهتز العالم لرؤيتها.
انقشع الغبار والدخان تبددت أصوات انفجار القذائف الاسرائيلية، وبدأت وسائل الاعلام تتحدث عن استشهاد طفل في حضن والده، ثم بدأت تتكشف ملامح جريمة جيش دولة الاحتلال بحق ضمير الإنسانية، إنها صفحة في سجل إسرائيل الأسود.
جريمة موثقة قبل تسعة عشر عامًا، عندما أطلق جنود جيش الاحتلال المصنف كأقوى جيش في المنطقة الرصاص باتجاه الطفل الفلسطيني محمد الدرة، بريء ارتقت روحه بينما لم يبلغ بعد أحد عشر عامًا، كان يحاول الاحتماء بظهر والده جمال، عندما حاصرهم رصاص المحتلين.
وثّق مشهد الجريمة الواقعي الحقيقي الزميل المصور الصحفي طلال أبو رحمة هو نفسه الذي التقط مشهد اسعافي إثر اصابتي برصاص الجنود المحتلين المتمركزين في موقع حربي عسكري محمي بمكعبات إسمنتية ضخمة، وذلك أثناء تغطيتي لأحداث انتفاضة الأقصى قبل حوالي ساعتين أو ثلاث من توثيقه مشهد قتل الطفل الدرة وجرح والده.
كانت الجريمة تعبيرا دقيقا وانعكاسا مباشرا لتهديد شاؤول موفاز الذي قال حينها عندما كان بمنصب رئيس أركان جيش الاحتلال: "سنواجه الفلسطينيين بأسلحة وغزارة نيران لم يعهدوها من قبل ولن يكون واحد بمأمن"، وهذا ما كان حيث استخدم جيشه طائرات الأباتشي ودبابات الميركافا للرد على أسلحة فردية معدودة!.
كانت جريمة قتل الطفل محمد الدرة برهانا على عقلية همجية استحكمت سلوك كل المحاربين في المشروع الصهيوني، تنظيمات مسلحة كانت قبل إعلان إنشاء دولة اسرائيل الناقصة أو كجيش نظامي بعد إعلان إنشائها.
اعتمد يوم العلم الفلسطيني بعدما رفع الرئيس محمود عباس رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية علم فلسطين إلى جانب أعلام الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومقرها نيويورك قبل أربع سنوات، ولأن مقاربات الصور البطولية في سجل تاريخ الكفاح الفلسطيني كثيرة، ولأن مناسباتها لا تعد ولا تحصى فقد بدت هذه المناسبة وكأنها مستوحاة من عمل بطولي سجله فتى فلسطيني شجاع في ذات الدائرة التي استشهد فيها الطفل الدرة، دائرة لا يزيد قطرها عن مقاس عشرات السواعد الفلسطينية السمراء وقامات شباب رفعوا الفتى محمد بربخ على أكتافهم ليتمكن من تسلق المكعبات العملاقة والوصول إلى سارية علم دولة الاحتلال، فيتمكن بعد محاولات من بلوغ ذروة السارية ونزعه ورميه وسط هتافات الشباب بحياة فلسطين والوفاء للشهداء.
أيام ما بين جريمة التصفية المقصودة (قتل الطفل محمد الدرة) والصورة البطولية التي جسدها الفتى محمد بربخ بنزع علم دولة الاحتلال وتمزيقه، وتعمد رفاقه إظهاره ممزقا لجنود الاحتلال الذين احتموا بهذا الموقع، وتحكموا بجميع أسلحتهم أوتوماتيكيا، وكانوا يرصدون شباب الانتفاضة عبر منافذ ضيقة، وكأن الفلسطيني الشاب قد ثأر لروح الفلسطيني الطفل، وليس غريبا أن كليهما باسم محمد، فالطفل بات محمدا كضحية، والفتى الشاب بات محمدا كبطل..وفي هذا المقام نقول بكل تأكيد لو أن جنرالا أجنبيا رأى هذا الموقع الاحتلالي (الحصن) وعلم برواية نزع العلم عن ساريته فإنه لن يصدق حتى يرى بأم عينه صور الفتى الفلسطيني الشجاع وكيف فعلها، فليس من السهل اختراق الأسلاك المكهربة والشائكة الفاصلة بين المكعبات والمتظاهرين، أما الصعود
إلى سطح موقع مزود بقوة نارية آلية من كل الاتجاهات، فإنه عمل فدائي لا يقوى عليه إلا مؤمن بحقه التاريخي والطبيعي في أرض وطنه، أما الغزاة فإنهم إلى زوال مهما علت ساريتهم.
عشرات الآلاف من الفلسطينيين ارتقوا شهداء من أجل رفع علم فلسطين رباعي الألوان في فضاء الحرية والاستقلال، فمنهم من رفعه في ميادين العمل الفدائي، ومنهم من رفعه في ميادين الثورات والانتفاضات، فالعلم ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وقداسته مستمدة من قداسة أرضنا وإنسانها، ورفعه تحت قبة سماء بلادنا أو في أي مكان في العالم نعتبره أسمى تعبير عن الوفاء للوطن والشهداء والأسرى والجرحى والصامدين الصابرين، وكل المستعدين لافتداء فلسطين، فكلنا للعلم... كلنا للوطن
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها